صيف الجزائر… حين يشتد الحر وتتصاعد نيران التطرف
صيف الجزائر الساخن لم يختلف هذه السنة عن سابقيه من حيث حرارة الأجواء، لكنه زاد سخونة بسبب أحداث مأساوية ومظاهر اجتماعية مثيرة للجدل، أبرزها حادثة سقوط الحافلة في وادي الحراش التي راح ضحيتها عدد من المواطنين الأبرياء. هذه الحادثة أعادت إلى الواجهة مسألة الإهمال المزمن في قطاع النقل بالحافلات، حيث ظل المواطنون يحذرون منذ سنوات من اهتراء وسائل النقل الجماعي وسلوكيات السائقين غير العقلانية، إلى جانب تهاون مالكي الحافلات الذين يقدمون الربح على سلامة الركاب.
في هذا الصيف أيضًا برز هجوم غير مسبوق للتيار الإسلامي المتشدد على المجتمع الجزائري، من خلال محاولة فرض أنماط دينية جديدة لم يعرفها الجزائريون من قبل. فقد تحولت مسألة اللباس، وبالأخص ارتداء الشورت، إلى موضوع سجالي، رغم أنه لباس عادي في دول مثل السعودية نفسها التي لطالما ارتبطت بالوهابية. صور ومقاطع من الملاعب والمنازل السعودية تظهر بوضوح رجالًا وأطفالًا يرتدون هذا اللباس بحرية بعد أن تخلت السلطات هناك عن شرطة الأخلاق ومنعت تدخلها في حياة الناس. غير أن ما تم تجاوزه في الخليج انتقل إلى شوارع الجزائر، حيث أصبح أي ملتحٍ يفرض وصايته على الآخرين، نساءً ورجالًا، بل وصل الأمر في بعض الحالات إلى تدخل عناصر الأمن وكأننا أمام عودة لنظام الحسبة الذي تخلت عنه السعودية رسميًا.
انتشار الفكر الوهابي السلفي في الجزائر يشكل خطورة تفوق حتى أخطر الأسلحة، لأنه فكر تكفيري يشرعن قتل المخالف ويهدد المرجعية الدينية الوطنية. هذه المرجعية تأسست عبر المذاهب الإسلامية الكبرى التي احتضنها الجزائريون منذ قرون، لكن السلفية الوهابية تعمل على تقويضها بحجة نقاء العقيدة. الأخطر أن هذا الخطاب، الذي يشيطن المرأة ويعاملها كجارية، قد يدفع الشباب الجزائري المتابع للنقاشات الدينية عبر وسائل التواصل إلى الانزلاق نحو الإلحاد، كما حدث في السعودية قبل أن تُبعد المتشددين نهائيًا عن الحياة العامة. ما يجري في الجزائر اليوم يبدو وكأنه محاولة لإعادة توطين تيار طُرد من الخليج في أرض دفعت ثمنًا باهظًا خلال العشرية السوداء.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد ظهر أئمة على مواقع التواصل الاجتماعي بخطابات متطرفة تثير السخرية أحيانًا، لكنها تكشف عقلية عدائية تجاه المرأة. أحدهم اتهم الأطفال الذين تربوا في الحضانة بأنهم يصبحون لصوصًا، في إشارة واضحة إلى الأمهات العاملات. آخر وصف طفلة في الابتدائي بأنها “سافرة” لأنها لا ترتدي الحجاب، فيما ذهب ثالث إلى شيطنة فتاة عمرها 12 عامًا لأنها استعملت مساحيق التجميل. بعضهم أفتى بوجوب مرافقة المحرم للمرأة عند سفرها بالسيارة، رغم أن السعودية نفسها تخلت عن هذا الشرط حتى في الحج والعمرة. كل هذه المواقف تكشف جهلًا وانفصالًا عن واقع المجتمع الجزائري الذي عُرف بوعيه وتضحيات نسائه منذ الثورة.
وفي ظل هذا الفراغ، ظهر ما يشبه المفتي غير الرسمي الذي يطلق الفتاوى يمينًا ويسارًا دون أي رادع، متذرعًا باحترام “ولي الأمر” في انتظار لحظة التمكين كما فعل الفيس سابقًا. في المقابل، الهيئات الدينية الرسمية غائبة أو صامتة رغم الأموال الطائلة التي تُصرف عليها من خزينة الدولة، فيما يبقى صوت شمس الدين وحده تقريبًا في مواجهة هذا التيار. ولو أن مثل هؤلاء ظهروا في السعودية أو غيرها وأفتوا خارج المؤسسات الرسمية لما استمروا طلقاء لساعات، لكن في الجزائر صار المشهد مفتوحًا لكل أشكال الفوضى الدينية.
الأخطر أن التيار المتطرف استطاع التغلغل إلى حد التأثير في التشريع، مثل المادة 144 مكرر التي استُعملت لمحاكمة مفكر جزائري لأنه ناقش حديثًا في صحيح البخاري. هذا أمر صادم، لأن المرجعية المالكية التي يتبناها الجزائريون تأسست قبل أن يولد البخاري نفسه، فما بالك أن يكتب كتابه. كيف يُحاكم شخص لأنه ناقش كتابًا جاء بعد قرون من مذهبه؟ هذا جهل ديني صارخ. الدراسات الحديثة نفسها أثبتت أن الأحاديث المتواترة والمتوافقة مع القرآن لا تتجاوز 115 حديثًا، بينما يُعامل أي ناقد للكتب التراثية وكأنه مجرم.
كل هذا يثبت أن صيف الجزائر الساخن كشف مجددًا أن خطر التيار الإسلامي المتطرف ما زال قائمًا، وهو الأخطر على الإطلاق لأنه يقوم على الجهل والتكفير ورفض أي اجتهاد. بلد مسلم منذ ثلاثة عشر قرنًا يجد نفسه مهددًا من فكر يستمد قوته من شيطنة المرأة وتحريم الفنون والملابس والموسيقى، بينما يدّعي تمثيل الإسلام. المفارقة أن الفنون والموسيقى نفسها كانت حاضرة في قصور الخلفاء العباسيين والأمويين الذين في عصرهم دُوّنت أغلب كتب التراث التي يستند إليها هؤلاء. لكن يبدو أن المتطرفين يريدون إعادة الجزائر إلى عصور الظلام متجاهلين دروس الماضي القريب الذي كاد أن يمحو الدولة من الوجود.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…