كزافييه دريانكور… سفير الحقد الاستعماري الذي لم يستوعب استقلال الجزائر!
اتهم السفير الفرنسي الأسبق في الجزائر كزافييه دريانكور، المعروف بانتمائه إلى اليمين الفرنسي المتطرف، الجزائرَ بالتآمر على النفوذ الفرنسي داخل أراضيها، زاعمًا وجود “تحالف” بين الحكومة الجزائرية والمؤسسة العسكرية وبعض التيارات الإسلامية، هدفه ـ بحسب قوله ـ “القضاء على اللغة الفرنسية والثقافة الفرانكفونية في البلاد”. وذهب أبعد من ذلك حين اتهم الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة بالتواطؤ في هذا “المشروع”، عبر تشجيع اللغة الإنجليزية وتمويل برامج تربوية وثقافية موجهة للشباب الجزائري، معتبراً أن ما يجري هو “حرب ثقافية” ضد فرنسا.
جاءت هذه التصريحات في مداخلة مطوّلة نشرها دريانكور على مواقع التواصل الاجتماعي، أعاد فيها نفس الخطاب الاستعلائي الذي اشتهر به منذ مغادرته المنصب الدبلوماسي، حيث قال إن “السفارتين الأمريكية والبريطانية في الجزائر تتباهيان على تويتر وفيسبوك بجهودهما في نشر اللغة الإنجليزية، وتقدمان منحًا للشباب الجزائري وتدعوانهم إلى المستقبل في لندن وواشنطن”، قبل أن يضيف بنبرة مشحونة: “الفرنسية لم تعد تساوي شيئًا في الجزائر”. ثم واصل السفير السابق انتقاداته قائلًا إن “الوجود الفرنسي في الجزائر أصبح ضعيفًا جدًا، والدليل أن هناك ثانوية فرنسية واحدة فقط في البلاد، مقابل أكثر من 45 مؤسسة تعليمية فرنسية في المغرب”.
بهذا الخطاب، أعاد دريانكور إنتاج نفس الرؤية الاستعمارية القديمة التي ترى في الجزائر “محمية ثقافية” لا يحقّ لها أن تختار لغتها أو شركاءها. فاتهام الجزائر بأنها تعمل على “إقصاء الفرنسية” هو في الحقيقة اعتراف ضمني بفشل فرنسا في الحفاظ على نفوذها التاريخي، وليس مؤامرة كما يحاول السفير المتقاعد تصويرها. فالحقيقة الواضحة أن الجزائر، منذ استقلالها، تسعى بثبات إلى بناء استقلال ثقافي وفكري موازٍ لاستقلالها السياسي، وأن إدخال اللغة الإنجليزية في التعليم لم يكن عملاً عدائيًا ضد فرنسا، بل قرارًا استراتيجيًا يهدف إلى الانفتاح على لغة العلم والبحث والتكنولوجيا، لغة المستقبل التي تتعامل بها الجامعات والشركات في كل أنحاء العالم.
يبدو أن دريانكور لم يستوعب بعد أن الجزائر لم تعُد تدور في الفلك الفرنسي، وأنها تتجه بخطى ثابتة نحو تنويع علاقاتها الدولية مع قوى جديدة مثل الصين وتركيا وروسيا وكوريا الجنوبية وإيطاليا، بعيدًا عن أي تبعية أو وصاية. فالجزائر اليوم تبني سياستها الخارجية على مبدأ الندية والاحترام المتبادل، لا على العلاقات الأبوية التي يريد بعض المتطرفين الفرنسيين الإبقاء عليها باسم “التاريخ المشترك”. وهذا ما يزعج دريانكور وأمثاله، الذين ما زالوا يحنّون إلى زمنٍ كانت فيه فرنسا تعتبر الجزائر جزءًا من “حديقتها الخلفية”.
إنّ إصرار هذا السفير السابق على تحميل الجزائر مسؤولية “انحسار اللغة الفرنسية” لا يُخفي فقط غياب الرؤية، بل يُبرز حقدًا دفينًا على الجزائر المستقلة. فالرجل، الذي تحوّل بعد مغادرته المنصب إلى “ناطـق باسم اليمين المتطرف” في الإعلام الفرنسي، لا يتحدث بصفته دبلوماسيًا سابقًا بل كمحارب خائب فقد ميدان نفوذه. لقد كتب مرارًا في صحف مثل لوفيغارو وValeurs Actuelles، مطالبًا فرنسا بـ“الصرامة تجاه الجزائر”، وبمراجعة علاقاتها مع “نظام عسكري لا يقدّر فرنسا”. وفي كل مرة، تتكرّر نفس النغمة: حنين إلى الماضي الاستعماري، واستعلاء ثقافي على شعبٍ قدّم مليون ونصف المليون شهيد من أجل التحرر.
لكن ما يغفله دريانكور هو أن الجزائر لا تحارب الفرنسية، بل تحارب التبعية. اللغة الفرنسية باقية في الجزائر، يتحدث بها كثير من الجزائريين، ويكتبون بها، ولكن ليس لأنها لغة فرنسا، بل لأنها لغة من لغات العالم. الجزائر لا ترفع راية حرب لغوية، بل ترفع راية السيادة اللغوية، والسيادة الثقافية، والسيادة في القرار التربوي والسياسي. أن تُدرّس الإنجليزية في المدارس الجزائرية لا يعني إلغاء الفرنسية، بل يعني إنهاء احتكارها. الجزائر لا تكره فرنسا، ولكنها ترفض أن تعيش في ظلّها.
والأدهى من ذلك أن السفير الفرنسي الأسبق لم يتوقف عند حدود النقد الثقافي، بل مضى يتباكى على “ضياع الحلم الفرنسي الجزائري”، كما سماه، مستحضرًا أوهام الجنرال ديغول سنة 1962، حين كان يتخيّل أن الجزائر المستقلة ستبقى “محورًا للنفوذ الفرنسي في إفريقيا”. هذا الحلم الذي يسميه دريانكور “شراكة”، هو في الحقيقة امتداد لفكرة الهيمنة الثقافية التي لفظها التاريخ. فالعالم تغيّر، وإفريقيا تغيّرت، والجزائر تغيّرت، لكن بعض العقول في باريس ما زالت متحجّرة عند زمن ما قبل الاستقلال.
الجزائر، ببساطة، تختار طريقها بنفسها. تبني علاقاتها على الاحترام، وتوسّع تعاونها مع قوى صاعدة، وتتبنّى اللغة الإنجليزية لأنها لغة العلم، وتُبقي على العربية لأنها هوية، وتتعامل مع الفرنسية كأداة لا كقيد. هذه ليست حربًا ضد فرنسا، بل تحررًا نهائيًا من نفوذها. ومن الطبيعي أن يثير هذا التحرر قلق أولئك الذين اعتادوا أن يروا الجزائر في موقع التابع، لا في موقع الندّ.
ما قاله كزافييه دريانكور لا يستحق سوى أن يُقرأ باعتباره صرخة غضب من رجلٍ فقد امتيازاته، لا تحليلًا سياسيًا جادًا. الجزائر اليوم أقوى من أن تهزها كلمات حاقدة، وأوعى من أن تُستدرج إلى جدل لغوي عقيم. فالتاريخ حسم الأمر: زمن الهيمنة انتهى، وزمن السيادة بدأ. والجزائر، التي كسرت سلاسل الاستعمار بالدم، قادرة على أن تكسر اليوم قيود الوصاية الثقافية بنفس العزيمة.
إنّ من يظن أن اللغة الفرنسية ستبقى خالدة في الجزائر بفضل العاطفة، لا يعرف هذا الشعب. الجزائر لا تقدّس اللغات، بل تقدّس استقلالها. وإنّ من يظن أن “تراجع النفوذ الفرنسي” ناتج عن مؤامرة أمريكية أو بريطانية، فهو ببساطة يرفض أن يرى الحقيقة: أن الجزائر لم تعد تقبل أن تُدار من الخارج.
ولعل أكثر ما يوجع أمثال دريانكور هو أن هذا التحول لم يأتِ بضجيج ولا بخطب، بل جاء بهدوءٍ وثقة، من داخل المؤسسات الجزائرية نفسها، ومن قرارات دولة تعرف ماذا تريد. لذلك يصرخ المتطرف الفرنسي من باريس، بينما تواصل الجزائر طريقها بثبات نحو مستقبل متعدد اللغات، متعدد الشركاء، مستقل القرار، قويّ الإرادة.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …