بوعمامة يبعث برسالة ثقة إلى الأسرة الإعلامية
كان صوت وزير الاتصال الدكتور زهير بوعمامة واضحًا وهادئًا وهو يردّ على أسئلة النواب بشفافية، واضعًا الإطار العام لمرحلة جديدة يسعى من خلالها إلى إصلاح قطاع الإعلام الوطني وتعزيز الثقة بين الدولة ومؤسساتها الإعلامية. لم يكن حديث الوزير تقنيًا فحسب، بل حمل رؤية سياسية ومؤسساتية تقوم على الشفافية والإنصاف في تسيير هذا القطاع الحساس.
استعرض الوزير في رده الوضع القانوني للمؤسسة الوطنية للنشر والإشهار (أناب)، موضحًا أن العقود المبرمة مع وسائل الإعلام لا تُلزم المؤسسة بتقديم دعم مالي مباشر، ومؤكدًا أن مراجعة القانون المنظم لعملها ستكون من أولويات المرحلة المقبلة. وقد أشار إلى أن هذه المراجعة ستجعل النصوص أكثر وضوحًا، وتضمن عدالة أكبر في التعامل مع المؤسسات الإعلامية، بما يمنح المسيرين والمتعاملين إطارًا قانونيًا شفافًا ومستقرًا.
هذه الخطوة، كما يرى كثير من المراقبين، تمثل تحولًا نوعيًا نحو تنظيم أكثر دقة لقطاع الإشهار، بما يحقق التوازن بين دعم وسائل الإعلام واستقلاليتها. فالقانون الجديد المنتظر سيشكّل ضمانة لحماية المسيرين من أي لبس قانوني، وسيسمح بتهيئة بيئة أكثر وضوحًا وجاذبية للاستثمار في الإعلام الوطني.
وفي قراءتنا لما جاء في الجلسة، فإن الوضعية الحالية تُعدّ غير منطقية من الناحية المهنية، لأن التعاقد يفترض التزامات متبادلة بين الأطراف، وهو ما يفسّر حاجة القطاع إلى إصلاح قانوني عاجل يُعيد تنظيم العلاقة بين الدولة والمؤسسات الإعلامية وفق مبادئ العدالة والشفافية.
كما ذكّر الوزير بأن قطاع الإعلام ليس مشروعًا تجاريًا بحتًا، بل هو مرفق عام تؤدي فيه الدولة دورًا أساسيًا في الدعم، مثلما هو الحال في كل دول العالم التي تعتبر الإعلام ضرورة اجتماعية وسياسية لا يمكن الاستغناء عنها في بناء الوعي الوطني وترسيخ قيم المواطنة.
وعلى عكس ما كان يقوله مسؤول سامٍ سابق، وصلت به كراهيته للإعلام إلى حدّ نعت مسؤولي وسائل الإعلام بـ”الطلّابين”، فقط لأنهم كانوا يبحثون عن الإشهار لضمان استمرار مؤسساتهم ودفع أجور عامليها. هذا الوصف المهين، الذي كان يُردّد بتعالٍ، كشف عن ذهنية إقصائية تجاه الصحافة الوطنية، وجاء مناقضًا تمامًا لتوجهات الدولة الجديدة. وقد وضع رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الأمور في نصابها عندما قال في إحدى لقائاته مع الصحافة: “ليس لكم إلا الأصدقاء”، داعيًا إلى تكتل مهني يحمي المصالح المشروعة ويعزّز استقلالية القرار الإعلامي.
ما تعرّض له بعض الناشرين من مواقف مهينة في فترات سابقة ترك أثرًا سلبيًا في معنوياتهم، وأثّر على تسيير مؤسساتهم، وربما جعل بعضهم يندم على خوض تجربة إنشاء وسيلة إعلامية تخدم المجتمع. غير أن المرحلة الجديدة التي يرسم ملامحها الوزير بوعمامة تعيد الأمل في علاقة أكثر احترامًا بين الدولة والإعلام، قائمة على التعاون والمسؤولية المشتركة.
كما كشف الوزير عن تقدّم الأشغال في إعداد صندوق دعم الصحافة المكتوبة والسمعية البصرية والإلكترونية، الذي سيتضمن معايير مهنية دقيقة للاستفادة من الدعم العمومي، من أبرزها احترام القوانين، وضمان الشفافية في التسيير، والالتزام بأخلاقيات المهنة، في خطوة تهدف إلى تنظيم الدعم بدل توزيعه العشوائي.
لقد اتسم خطاب الدكتور بوعمامة أمام النواب بالهدوء والاتزان، لكنه حمل في طياته إرادة إصلاح حقيقية تنطلق من تشخيص دقيق للواقع وتذهب نحو وضع أسس قانونية ومؤسساتية جديدة. ومن خلال تأكيده المتكرر على أن وزارته تعمل “في حدود صلاحياتها”، أوضح أن إصلاح الإعلام مشروع وطني تشاركي يتطلب تنسيقًا بين مختلف القطاعات، من أجل بناء إعلام وطني قوي ومسؤول.
إنّ ما طرحه الوزير يعكس رؤية إصلاحية شاملة بعد أكثر من ثلاثين سنة من تجربة الصحافة المستقلة، ويفتح الباب أمام تقييم صادق ومرحلة جديدة من البناء المؤسساتي. فالإعلام الوطني اليوم مطالب بأن يكون درعًا يحمي الجزائر وصوتًا يعبّر عنها، في ظل دولة تسعى لتثبيت مبدأ الشفافية، وترسيخ الثقة بين السلطة الرابعة ومؤسسات الحكم.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
واشنطن تبحث عن البقاء… بالحرب!
تُظهر التحولات الجيوسياسية الأخيرة أن الولايات المتحدة، القوة الأكثر نفوذًا منذ نهاية الحر…







