الجزائر تحذّر في مجلس الأمن.. تجفيف التمويل هو مفتاح هزيمة الإرهاب

قدّمت الجزائر عبر ممثلها الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير عمار بن جامع، رؤية دقيقة ومفصلة حول التهديدات الأمنية في المنطقة، مركّزة على جانب تُصرّ الجزائر منذ سنوات على اعتباره محور المواجهة، قطع مصادر تمويل الجماعات الإرهابية وتجفيف شرايينها المالية، في جلسة إحاطة موسّعة عقدها مجلس الأمن الدولي في نيويورك حول تعزيز التعاون الإقليمي لمكافحة الإرهاب في غرب إفريقيا ومنطقة الساحل،

وفي مداخلة مطولة تميّزت بالدقة والتوثيق، أوضح المندوب الجزائري أنّ الإرهاب في الساحل لم يعد ظاهرة انعزالية أو ظرفية، بل تحوّل إلى تهديد بنيوي واسع النطاق نتيجة التطور التنظيمي للمجموعات المسلحة، وتوسّع نشاطها عبر الحدود، وقدرتها على بناء شبكات مالية معقدة، تغذيها تجارة المخدرات، والتهريب، والابتزاز، والخطف مقابل الفدية. وأكد أنّ هذه الجماعات باتت تملك “أنظمة مالية موازية” توفر لها الاستقلالية، وتسمح لها بالتحرك خارج الرقابة الحكومية، مستفيدة من هشاشة العديد من الدول في المنطقة.

وأشار السفير بن جامع إلى أن هذا التمدد لم يأتِ من فراغ؛ بل هو نتيجة قصور التنسيق الإقليمي وضعف الاستجابة المشتركة، إضافة إلى “فراغات اقتصادية” تستغلها الجماعات الإرهابية للتغلغل داخل المجتمعات المحرومة. واعتبر أن معالجة هذه الظاهرة لا يمكن أن تقتصر على الرد الأمني فقط، بل يجب أن تشمل مواجهة مصادر التمويل التي تمثل “الشريان الرئيسي لبقاء التنظيمات الإرهابية”.

وفي هذا السياق، قدّم المندوب الجزائري رؤية مفصلة حول أولويات الجزائر، مؤكدًا أنّ نجاح أي استراتيجية يتطلع إليها المجتمع الدولي يعتمد قبل كل شيء على وقف تدفق الأموال إلى الجماعات المسلحة. ودعا إلى تشديد الرقابة على حركة الأموال المشبوهة، وتعزيز أنظمة التتبع المصرفي، ومكافحة التجارة غير المشروعة بكل أنواعها، ووضع آليات صارمة لتجميد الأصول، سواء داخل القارة الإفريقية أو خارجها، باعتبار أن التمويل هو “النقطة التي إذا شُلّت، ينكسر معها العمود الفقري للتنظيمات الإرهابية”.

وذكّر بن جامع بأن الجزائر تتحدث من منطلق تجربة مريرة عاشت تفاصيلها خلال التسعينيات، حيث طوّرت أدوات قانونية واستخباراتية أصبحت نموذجًا يُحتذى به في القارة. وأبرز أن اتفاقية الجزائر لعام 1999 تشكل اليوم الإطار المرجعي للاتحاد الإفريقي في مكافحة الإرهاب وتمويله، وهي وثيقة لا تزال توجه السياسات القارية، وتؤكد الدور القيادي الذي تلعبه الجزائر في هذا المجال.

كما شدد على أن مكافحة التمويل تتطلب تنسيقًا إقليميًا صارمًا، يبدأ بتوحيد الجهود داخل منصات الاتحاد الإفريقي مثل لجنة أجهزة الاستخبارات والأمن الإفريقية “سيسا”، وآلية الشرطة الإفريقية “أفريبول”، ومركز الاتحاد الإفريقي لمكافحة الإرهاب. وأشار إلى أن هذه المنصات صُممت خصيصًا لضمان الانسجام بين المبادرات الإقليمية، وتقديم دعم عملياتي للدول التي تواجه ضغوطًا متزايدة.

ولم يغفل بن جامع التأكيد على أنّ الاستجابة الفعالة تقتضي أيضًا تنسيقًا سياسيًا بين الدول، وتبادلًا للمعلومات الاستخباراتية في الوقت الفعلي، وتجاوز حالات التردد والاختلاف التي تعرقل العمل الجماعي. وقال إن بناء الثقة بين الدول قد يستغرق وقتًا، لكنه خطوة لا مفر منها أمام التهديدات التي تتوسع بوتيرة أسرع من جهود المواجهة.

وفي ختام مداخلته، أكد المندوب الجزائري أن الجزائر، التي تتقاسم حدودًا واسعة مع دول الساحل الأكثر تضررًا، تعتبر نفسها في قلب هذا التحدي، وأنها جاهزة لتقاسم خبرتها وتكثيف تعاونها الإقليمي والدولي. وشدد على أن “الحرب على الإرهاب تبدأ من الحرب على تمويله”، وأن تجفيف منابع المال هو “الحل الأساسي لإضعاف هذه الجماعات قبل أي رد آخر”.

وبهذا الموقف الواضح، وضعت الجزائر مرة أخرى مقاربة تجفيف التمويل في صدارة النقاش الأممي، معتبرة إياها مفتاحًا لأي نجاح محتمل في مواجهة واحدة من أخطر الأزمات الأمنية في العالم اليوم.