‫الرئيسية‬ الأولى درع الأمة المهمل…

درع الأمة المهمل…

درع الأمة المهمل...
في زمن تتغيّر فيه موازين القوى وتُعاد فيه صياغة العقول أكثر مما تُرسم فيه حدود الخرائط، لم يعد مقبولًا أن ينظر إلى الإعلام كأداة هامشية أو مكمّلة للسيادة الوطنية. فكما أن الجيوش تحتاج إلى أسلحة ذكية وحديثة، تحتاج الشعوب إلى إعلام ذكي ومحصّن، لأن المعارك في القرن الواحد والعشرين لا تُحسم فقط في ساحات القتال، بل في ساحات الوعي والإدراك.

الاستراتيجية الإعلامية اليوم لم تعد ترفًا سياسيًا أو موضوعًا مؤجلًا، بل أصبحت حاجة وطنية عاجلة، لا تقل أهمية عن تحديث سلاح الجيش. فكما تُخاض حروب السيطرة بالدرونز والصواريخ، تُشن حروب أخطر على الشعوب عبر الصورة والكلمة والمعلومة المضلّلة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت ساحة حرب مفتوحة، بلا جبهة ولا ضوابط.

رغم التاريخ العريق الذي يحمله الإعلام الجزائري، منذ صوت “صوت الجزائر المكافحة” إبّان الثورة التحريرية، إلى نضالات الصحافة المستقلة في تسعينيات الدم والنار، فإن واقع الإعلام الجزائري اليوم لا يعكس تطلعات شعبه ولا يرقى إلى رهانات المرحلة.

الصحافة المكتوبة في تراجع مستمر، منهكة بين ضعف التوزيع، وانخفاض نسب القراءة، وتضاؤل الدعم. أما الإعلام السمعي البصري، فغالبًا ما يقع في دوامة التكرار والسطحية، وأسير خطاب موجه لا يخاطب ذكاء المتلقي بقدر ما يهمّشه أو يستهين به. القنوات الخاصة تعاني من هشاشة قانونية، وغياب الجودة، بينما بقي الإعلام العمومي، رغم تعدد وسائله، رهين العقل البيروقراطي وأسلوب التلقين أكثر من الإقناع.

وفي عالم تحكمه السرعة، ويقوده الإعلام الرقمي، لا تزال الجزائر متأخرة في بناء إعلام رقمي محترف، وطني، نافذ، وقادر على خوض المعركة الرقمية الكبرى التي تستهدف تشويه الدولة، وتفكيك الذاكرة الجماعية، وتمزيق الانتماء الوطني.

السؤال الجوهري.. ما الفائدة من جيش قوي، وحدود آمنة، إن كان الوعي مخترقًا؟ ما جدوى السلاح الحديث، إذا كانت العقول تُستباح يوميًا أمام حملات تضليل منظمة، وقنوات أجنبية تحمل أجندات ناعمة وخطيرة؟ الإعلام هو خط الدفاع الأول، وهو الرادار الذي يلتقط نبض الأمة وتوجهات أعدائها. وإذا أهملنا هذا السلاح، فإن كل التضحيات السابقة تصبح معرضة للمحو من الذاكرة الجماعية.

لقد تحوّل الإعلام في كثير من دول العالم إلى سلاح استراتيجي بامتياز. دول صغيرة، لا تمتلك لا الغاز ولا الجيوش، باتت تصنع رأيًا عالميًا وتؤثر في توجهات شعوب بأكملها عبر قنوات ذكية، ومواقع موجهة، وخطاب مقنع، وتكنولوجيات حديثة. فهل يُعقل أن تبقى الجزائر، بعمقها الحضاري، وبقوتها البشرية، وثقلها الجغرافي، تتعامل مع الإعلام بعقلية القرن الماضي؟

إن المطلوب اليوم هو مشروع وطني متكامل لإصلاح الإعلام، يستند إلى رؤية واضحة، ويقوم على استقلالية حقيقية، وتكوين مستمر، وتحفيز للتميز، وفتح المجال أمام كفاءات الإعلام الشابة، سواء في الجزائر أو ضمن الجالية. إعلام يخاطب الداخل بثقة، والخارج بلغة يفهمها، دون استعلاء ولا استجداء.

كما يجب تحرير الإعلام من هيمنة الإشهار العمومي، ووضع آليات شفافة لتوزيعه، وربط الدعم العمومي بجودة المحتوى، لا بالولاء أو الصمت. يجب تحديث القوانين، ومنح القنوات الخاصة وضعًا قانونيًا واضحًا، وإنشاء مؤسسات تكوين إعلامي ذات معايير عالية، ومراكز أبحاث إعلامية تعمل على تحليل الخطاب، واستشراف الرأي العام، وصناعة التأثير.

لقد ولّت تلك الحروب التي كانت تبدأ بإعلان رسمي وتنتهي بتوقيع هدنة. الحروب الحديثة تُخاض في الظل، في العقول والنفوس، عبر بث الشك، وضرب الثقة بين المواطن والدولة، وتفكيك الرموز الوطنية، وإعادة سرد التاريخ من منظور عدائي. إنها حروب نفسية ناعمة، تتسلل عبر الشاشات والمنشورات ومقاطع الفيديو الموجهة، وتُدار باحتراف من غرف مظلمة في عواصم لا تريد الخير للجزائر.

في مواجهة هذه الهجمات، لا يكفي التنديد ولا حتى الرد الانفعالي، بل نحتاج إلى إعلام مدرّب، واعٍ، ومحصن بالمعرفة، يعرف كيف يواجه الحملات الخارجية، لا بردّ الفعل، بل بالفعل الاستباقي، القائم على التحليل والتفسير وكشف الأجندات. إعلام لا يكتفي بالدفاع، بل يبادر إلى الهجوم، يفكك الخطاب المعادي، ويقدم رواية وطنية متماسكة تقنع الداخل وتُربك الخارج.

وفي ظل غياب هذا الدور الحيوي، يتكفّل به اليوم أفراد عبر منصات التواصل، دون دعم مؤسساتي أو حماية قانونية، بينما من المفروض أن تتولى مؤسسات الإعلام الرسمي والخاص هذه المهمة الاستراتيجية، بميزانيات مدروسة، وطاقم مكوّن، وخطة واضحة.

يأتي اليوم العالمي لحرية الصحافة، الموافق لـ3 ماي من كل عام، ليذكّرنا بأن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل هي مسؤولية أخلاقية، ورسالة وطنية، ومرآة تعكس واقع المجتمعات كما هو، دون تزويق أو تزييف. وهو أيضًا فرصة للتساؤل: هل نملك اليوم في الجزائر صحافة تمثل بحق تطلعات شعبها؟

اليوم العالمي لحرية الصحافة، هو مناسبة تذكّرنا بأن الصحافة هي حجر الزاوية في بناء المجتمعات الواعية والشفافة. الصحافة هي المرآة التي تعكس واقع الشعوب، وتمكّن الأفراد من اتخاذ قرارات مستنيرة مبنية على الحقائق. وبالرغم من أن هذا اليوم يُحتفل به عالميًا كتقدير للصحفيين، إلا أنه أيضًا فرصة لإعادة التفكير في الوضع الإعلامي في الجزائر وتحدياته، حيث يواجه الإعلام الوطني صعوبات عديدة.

اليوم هو دعوة للمراجعة والتقييم المستمر، حيث تُحتفل الدول في جميع أنحاء العالم بتقدمها في تعزيز حرية الصحافة، وحماية الصحافيين من المخاطر التي قد تواجههم. في الجزائر، ما زالت الصحافة تواجه تحديات في توفير بيئة مستقرة تحترم حرية التعبير وتمنح الصحافيين الأدوات اللازمة لممارسة مهنتهم على أكمل وجه. ولذا، فإن اليوم العالمي لحرية الصحافة لا يُعتبر مجرد يوم تكريم، بل هو أيضًا لحظة تفكير نقدي حول مستقبل الإعلام الوطني.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

العدد 86 من يوميـــــة “المؤشر” 25|11|2025