‫الرئيسية‬ الأولى أعيدوا أموالنا المنهوبة… أما شهداؤنا فهم أحياء عند ربهم يُرزقون
الأولى - الافتتاحية - الوطني - 1 يونيو، 2025

أعيدوا أموالنا المنهوبة… أما شهداؤنا فهم أحياء عند ربهم يُرزقون

أعيدوا أموالنا المنهوبة... أما شهداؤنا فهم أحياء عند ربهم يُرزقون
أخطأت ليا سلامي (Léa Salamé)، ثم تمادت، ثم عرّت، من حيث تدري أو لا تدري، ما تبقّى من العقل الاستعماري الفرنسي الذي لم يتغيّر سوى في أدواته، لا في منطقه. لم تكن تلك الجملة التي نطقتها في إذاعة “فرانس إنتر” — بكل وقاحة وتجرد من الحس الإنساني — مجرد زلة لسان إعلامي مستفز، بل كانت انعكاسًا دقيقًا لوهم استعلائي متجذّر في نخاع الفكر الكولونيالي، الجزائر، في نظرهم، ما زالت تحت وصاية رمزية، وشهداؤها ليسوا إلا مواد تفاوض قابلة للتأجيل والمقايضة.

أن تقترح صحفية في القرن الواحد والعشرين، وفي قلب العاصمة التي شهدت مظاهرات أكتوبر 1961 وقنابل جبهة التحرير الوطني، أن تُبادل جماجم آلاف الشهداء الجزائريين بحرية كاتب أدين وفق قوانين بلده، فتلك ليست فقط قلة احترام، بل إهانة جماعية لماضينا، لحاضرنا، ولدمائنا التي لم تجف بعد. لم تكن ليا سلامي تتحدث عن قطع أثرية، ولا عن أرشيف إداري، بل عن رفات مقاومين قُطعت رؤوسهم بالسيوف، وحُمِلت إلى فرنسا كغنائم حرب تُعرض اليوم كأنها آثار فرعونية لا تحمل ذاكرة ولا وجعًا.

هل نحتاج إلى تذكيرها بأن ما تطالب “بمقايضته” هو رأس بوزيان، بوبغلة، الشيخ بوزيد، السي المختار، وأن كل جمجمة منهم ليست مجرد عظم بل سجلّ من التضحيات التي فاقت حدود الاحتمال؟ هل نُذَكّرها أن هؤلاء الرجال لم يُحاكموا، لم يُجرَّموا وفق قانون، بل قُتلوا وهم يدافعون عن أرضهم، عن شعبهم، عن كرامتهم؟

إن ما طرحته سلامي، وهي من أصول لبنانية، لا ينفصل عن عقدة متجذّرة لدى من يرغب في أن يكون فرنسيًا أكثر من الفرنسيين. ففي كل جملة من تصريحاتها تقبع تلك الرغبة المريضة في تقديم الولاء المطلق لباريس، حتى لو كان على حساب التاريخ، والمبادئ، والدماء. إنها نموذج حديث لأولئك “فاقدي الهوية”، الذين كانوا ولا يزالون يبررون الاستعمار، يُجمّلون صورته، ويتهمون من قاومه بالتخلّف والعنف.

ما يثير الفزع أكثر من تصريحها، هو صمت النخبة الفرنسية أمامه. لم نسمع تنديدًا واسعًا، لم نرَ استقالة أو اعتذارًا. فقط بعض الأصوات الخجولة، وكأن الأمر لا يستحق أكثر من لفت نظر. وكأن الجزائريين، مجددًا، يجب أن يصمتوا أمام “التحليل الإعلامي الفرنسي”، ولو كان ذلك على رفات آبائهم.

نحن لا نُطالب بردّ جماجم شهدائنا كـ”مبادرة حسن نية”. نحن لا نريدهم أن يُخرجونا من قاعات المتاحف الفرنسية في صناديق خشبية من فضلكم. نحن نُطالب باعتراف رسمي، شامل، بأن ما جرى كان جريمة ضد الإنسانية. ولسنا مستعدين لنعيد النظر في هذا الملف مقابل صفقة سياسية مشبوهة أو إطلاق سراح كاتب، مهما كان وضعه.

الحقيقة الصادمة التي يجب أن تسمعها فرنسا وكل من يدافع عن إرثها الاستعماري، جماجم شهدائنا لا تُقايض. ومن يبحث عن المقايضة، فليبدأ بأموالنا المنهوبة في زمن العصابة، بثرواتنا التي نُهبت على مدى 132 عامًا، بحقولنا المحروقة، وبأطفالنا الذين قضوا في المداشر بالقنابل الفسفورية. أما الشهداء… فهم أحياء عند ربهم يُرزقون.. وكرامتهم لا تُناقَش.

في 2025، وبعد كل ما كُتب وقيل، ما تزال فرنسا — رسميًا أو إعلاميًا — تتهرب من الاعتراف الكامل بماضيها في الجزائر. وما تزال بعض الأصوات، مثل صوت ليا سلامي، تعتقد أن الجزائر مجرّد تابع ثقافي، وأن ذاكرتها الوطنية يمكن التلاعب بها. لكن هذه المرة، نحن لا نرد فقط بغضب. بل نردّ بوعي، وبوثائق، وبقوة جيلٍ لا ينسى، بل يحوّل الجراح إلى سرد.

فليحتفظ الإعلام الفرنسي بمذيعاته. فلتحتفظ باريس بصمتها الخبيث. أما نحن، فأمام كل ميكروفون، نُردّد: أعيدوا إلينا أموالنا المنهوبة، أما شهداؤنا… فهم أحياء عند ربهم يُرزقون.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …