‫الرئيسية‬ الأولى أوروبا خارج التاريخ
الأولى - الدولي - مقالات - 16 مارس، 2025

أوروبا خارج التاريخ

أوروبا خارج التاريخ
لا تزال أوروبا تُظهر عجزاً مقلقاً عن التأثير في مجريات الأحداث الدولية. التفاعلات الجارية بين موسكو وواشنطن، والتي تتعلق بالتحضيرات لعقد القمة المرتقبة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تَكشف عن حالة من الفشل الأوروبي لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر. على الرغم من محاولات أوروبا المستمرة للتدخل في تشكيل العلاقات الدولية، يبدو أن القارة العجوز تجد نفسها في مأزق تاريخي يخرجها من معادلة القوى الكبرى.

العديد من المحاولات الأوروبية لتخريب العلاقات الروسية الأمريكية لم تُسفر إلا عن فشل ذريع، كان أبرزها مساعي بوريس جونسون، رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق، الذي حاول التدخل أثناء الحملة الانتخابية للرئيس ترامب عبر إقناعه بخطة سلام في أوكرانيا. هذه الخطة، التي كان من المفترض أن تسهم في حل النزاع الأوكراني، أدت إلى توتر العلاقات بين الرئيس الأمريكي وبوتين، حيث قام جونسون بمقترح استفز بوتين بشكل مباشر، ليقوم الأخير برفضه بشدة، مما دفع ترامب إلى الرد بطريقة معاكسة، ما أسهم في تعميق الأزمة بين واشنطن وموسكو.

السيناريو الذي كان يهدف إلى تخريب اتفاقية إسطنبول لم يحقق أهدافه، بل فطن له ترامب سريعًا. تحركاته أثبتت أنها مدروسة بعناية وبناءة على رؤية استراتيجية أمريكية قديمة، تظهر ملامحها بوضوح في تصريحات مارك ميلي، منسق قيادات الأركان في الجيش الأمريكي سابقًا، حين قال: “هناك ثلاث قوى في العالم: أمريكا، روسيا، والصين”. هذا التصريح يبرز حقيقة جديدة؛ أوروبا أصبحت خارج معادلة القوى الكبرى على الساحة الدولية، حتى في ظل إدارة الرئيس جو بايدن.

بريطانيا، التي لطالما كانت تعتبر القوة العظمى في أوروبا، والتي وصفها الجنرال ديغول بـ”الخبث”، لم تُفلح هذه المرة في التأثير على مسار العلاقات الأمريكية الروسية عبر بوريس جونسون. ولكن، لا يمكن لأحد أن يتوقع أن تتوقف بريطانيا عن محاولاتها الدائمة لعرقلة أي تقارب بين موسكو وواشنطن. فبريطانيا تواصل الآن التصعيد العسكري في منطقة البلطيق، محاوِلة جر حلف الناتو إلى مواجهة مع روسيا عبر محاصرتها. من خلال محاولة منع روسيا من استخدام ممر سوالكي، الذي يربط روسيا بمنطقة كالينينغراد المطلة على بحر البلطيق، فإن بريطانيا تأمل في تقليص قدرة روسيا العسكرية في المنطقة.

لكن الرد الروسي كان سريعًا وقويًا، حيث قامت موسكو بتسليم بلاروسيا صواريخ “أوروشنيك” الفرط صوتية، التي تعد من أخطر الأسلحة على الإطلاق، مما يجعل دول أوروبا في مرمى الصواريخ الروسية حتى في حال تم منع روسيا من استخدام ممر سوالكي. هذه الخطوة تشير إلى أن أوروبا قد تواجه تهديدًا عسكريًا غير مسبوق في حال استمرت في استفزاز موسكو.

التطورات الجارية تشير إلى تغيرات في الرؤية الأمريكية للعلاقات الدولية، وهو ما يتجسد في تصريحات ماركو روبيو، وزير خارجية الولايات المتحدة، حول التعددية القطبية. هذه التصريحات، بالإضافة إلى اتصالاته مع موسكو حول قصف الحوثيين في اليمن، تُظهر تحولًا غير مسبوق في السياسة الأمريكية تجاه روسيا. قبل أن يصبح ترامب رئيسًا، لم يكن أحد يتخيل أن تكون هناك مثل هذه التقارب بين واشنطن وموسكو، وهو ما يزيد من الضغط على أوروبا التي تحاول جاهدة إيجاد موطئ قدم لها في هذا النظام العالمي المتغير.

إن محاولات أوروبا للتدخل في الشؤون الروسية أو حتى لتقويض التقارب الأمريكي الروسي، من خلال تشكيل قوات عسكرية للدخول إلى أوكرانيا، قد تؤدي إلى أزمة عسكرية كبيرة، ما يشكل تهديدًا حقيقيًا لمستقبل علاقاتها مع الولايات المتحدة. التصعيد العسكري قد يؤدي إلى صدام مباشر مع روسيا، وهو ما من شأنه أن يضر بمصالح أوروبا في المستقبل.

أحد العوامل التي تؤكد غياب تأثير أوروبا على الساحة العالمية هو تراجع دور الاتحاد الأوروبي في العلاقات الدولية. فقد أظهرت إدارة ترامب عدم رغبتها في التعامل مع ممثلي الاتحاد الأوروبي، بدءًا من رفض استقبال السيدة كاياك لاش، ممثلة العلاقات الخارجية والأمن الأوروبي المشترك. هذا الرفض يعكس تحولًا جذريًا في العلاقات، حيث أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة تفضل الآن التعامل مع الحكومات الأوروبية بشكل مباشر، متجنبةً مؤسسات بروكسل.

هذا التغيير سيزيد من تفاقم الأزمة الداخلية في أوروبا، ويُظهرها بمظهر الذي يعاني من التشتت والعجز عن لعب دور فاعل على الساحة الدولية. أوروبا، التي كانت في الماضي لاعبًا رئيسيًا في السياسة العالمية، أصبحت اليوم في موقع يتهمها بالنفاق من قبل الولايات المتحدة، في وقت كانت فيه تأمل في تعزيز مكانتها الدولية.

إن التحضيرات الجارية للقمة المرتقبة بين ترامب وبوتين تدل على بداية مرحلة جديدة في بناء علاقات دولية، حيث من المرجح أن تصبح أوروبا على الهامش في هذه المعادلات الكبرى. في هذا السياق، قد يشهد العالم ما يمكن تسميته بـ”يالطا جديدة”، حيث يجتمع زعماء القوى الكبرى دون حضور ممثلين عن أوروبا. كما حذر من ذلك دومينيك دو فيلبان في عدة مناسبات، إلا أن أوروبا بدت عاجزة عن استعادة مكانتها على الساحة الدولية.

في الوقت الذي تتجه فيه أمريكا للاعتراف بانتصار روسيا في حربها ضد أوكرانيا، تظل أوروبا تتلكأ في اتخاذ خطوات واضحة على الساحة الدولية، ما يعكس فشلًا ذريعا في استعادة قدرتها على التأثير. يبدو أن أوروبا على مفترق طرق، في مرحلة انتقالية لا تملك فيها سوى التحول من لاعب رئيسي إلى مجرد متفرج على التطورات العالمية. في هذه الأثناء، يظهر جليًا أن الدور الأوروبي في القرن الواحد والعشرين قد لا يتعدى كونها مجرد شاهد على أحداث التاريخ، التي تُكتب الآن بعيدًا عن أراضيها.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء

صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…