اتفاق الغاز والسلاح… هل باعت بروكسل سيادة أوروبا؟
توصل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى اتفاق تجاري وصفه كثيرون بـ”المشؤوم”، يقضي بتثبيت رسوم جمركية نسبتها 15% على السلع الأوروبية المصدرة إلى الأسواق الأمريكية، وهي الرسوم التي سبق أن فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. اللافت أن هذا الاتفاق جاء بعد لقاء جمع بين رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، والرئيس ترامب، في ملعب الغولف الذي يملكه الأخير في أيرلندا، حيث استمرت المفاوضات لساعات، قبل الإعلان عن التوصل إلى الاتفاق.
تاريخيًا، عاشت فون دير لاين في الولايات المتحدة أكثر من 15 سنة، ويُنظر إليها في بعض الأوساط الأوروبية على أنها شخصية ذات ميول موالية للسياسات الأمريكية. ويبدو أن هذا الاتفاق يعزز هذا الانطباع، إذ وافقت فيه المفوضية الأوروبية على شروط تمس جوهر السيادة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، دون مقابل حقيقي، ما اعتبره العديد من القادة الأوروبيين رضوخًا كاملاً للضغوط الأمريكية.
أحد أخطر بنود الاتفاق يتمثل في التزام الاتحاد الأوروبي بشراء ما قيمته 750 مليار دولار من الغاز الطبيعي المسال الأمريكي، وهو غاز صخري يزيد سعره بثلاثة أضعاف عن سعر الغاز الروسي، فضلًا عن ضرره البيئي الكبير. هذا القرار ستكون له انعكاسات كارثية على الاقتصاد الأوروبي، خصوصًا في ظل ارتفاع فواتير الطاقة بالنسبة للمواطن الأوروبي، الذي يعاني أصلًا من أعباء المعيشة المتزايدة. كما أن البنية التحتية الأوروبية، من موانئ ومنشآت لاستقبال الغاز، غير مجهزة حاليًا لاستيعاب هذه الكميات الضخمة.
النتيجة؟ حالة ركود اقتصادي رسمي في ألمانيا، المحرك الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، وتسجيل معدلات إفلاس غير مسبوقة للشركات. هذا الواقع بدأ يُحدث تصدعات داخلية في الاتحاد، حيث تعالت أصوات سياسية في ألمانيا تُطالب بإعادة النظر في استمرار عضويتها ضمن التكتل الأوروبي، معتبرة أن بروكسل باتت عبئًا لا داعي له.
ومما يزيد الوضع تعقيدًا هو الجانب المتعلق بشراء الأسلحة، إذ يلزم الاتفاق دول الاتحاد الأوروبي بشراء ما يقارب 170 مليار دولار من المعدات العسكرية الأمريكية، من طائرات F-35، إلى نظام باتريوت الدفاعي، وغيرها من الأسلحة. هذا الشرط يُجهز على أي فرصة فعلية لبناء صناعة عسكرية أوروبية مستقلة، كما كان يُروّج له سابقًا في فرنسا وألمانيا. فمن سيشتري بعد الآن طائرات “رافال” الفرنسية أو مقاتلات “تايفون” الأوروبية، في ظل الالتزام المسبق بالمنتج الأمريكي؟ هكذا تُقتل المبادرات الأوروبية الوليدة في مهدها، ويُجهض أي طموح لتكوين قوة دفاع أوروبية ذات سيادة.
الأسوأ أن هذا الاتفاق قد يدفع الاتحاد الأوروبي، المقيّد الآن ماليًا، للبحث عن مصادر تمويل جديدة عبر الضغط على دول أخرى خارج التكتل، وابتزازها اقتصاديًا لتمويل هذه الصفقات الثقيلة المفروضة لصالح “العم سام”.
وقد قوبل الاتفاق بعاصفة من الانتقادات داخل أوروبا، خاصة أن بريطانيا – التي خرجت من الاتحاد – نجحت في توقيع اتفاق خاص مع الولايات المتحدة لا يتضمن سوى 10% من الرسوم الجمركية، ما دفع العديد من دول الاتحاد إلى التشكيك في جدوى التفاوض الجماعي، والدعوة إلى اعتماد مفاوضات ثنائية مع واشنطن، كل حسب قوته الاقتصادية ومصالحه الخاصة.
في المجمل، يفقد هذا الاتفاق الاتحاد الأوروبي قدرًا كبيرًا من استقلاليته، ويجعله أقرب إلى تابع للولايات المتحدة، لا شريكًا نِدّيًا. وبهذا الشكل، تكون أورسولا فون دير لاين قد وجهت ضربة قاصمة لحلم أوروبا في أن تكون قوة عالمية مستقلة ومتوازنة في معادلة القوى الدولية، واضعة التكتل الأوروبي تحت أقدام واشنطن، مقابل اتفاق يُثقل كاهل الشعوب الأوروبية، اقتصاديًا وسياسيًا واستراتيجيًا.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…