البابا ليون الرابع عشر: صوت أوغسطيني يعتلي كرسي الفاتيكان
في لحظة رمزية جمعت بين الدين والفكر والتاريخ، أعلن الفاتيكان مؤخرًا عن انتخاب الكاردينال الأمريكي روبير فرانسيس بريفوست بابا جديدًا للكنيسة الكاثوليكية، تحت الاسم البابوي “ليون الرابع عشر”. ومع هذا الإعلان، عاد اسم القديس أوغسطين، الفيلسوف اللاهوتي الذي وُلد في الجزائر في القرن الرابع الميلادي، إلى الواجهة، بوصفه المرجع الفكري والروحي الأبرز الذي ألهم البابا الجديد في مسيرته الدينية.
يُعرف البابا ليون الرابع عشر بانتمائه الفكري الواضح إلى التيار الأوغسطيني، الذي يشدد على وحدة الكنيسة ويُزاوج بين الإيمان والعقل. هذا التيار، الذي شكّل أحد ركائز الفكر المسيحي الوسيط، وجد في أوغسطين – أسقف مدينة هيبون (عنابة حاليًا) – مرجعًا لا يُضاهى. فقد ألّف هذا الأخير عددًا من أبرز الكتب التي لا تزال تُدرّس في المعاهد اللاهوتية الكبرى حول العالم، أبرزها “مدينة الله” و”الاعترافات”، اللذان وضعا أسسًا فلسفية عميقة للعقيدة المسيحية والنظام الكنسي.
اختيار البابا ليون الرابع عشر لهذا المسار اللاهوتي ليس مجرد تبنٍّ فكري، بل يُعبر عن التزام عقائدي راسخ بإرث أوغسطين الذي نُقِشت أفكاره الأولى في مدن شمال إفريقيا، لا سيما في سوق أهراس (مسقط رأسه) وعنابة (موطن أسقفيته).
الجزائر لم تكن فقط موطن القديس أوغسطين، بل مثّلت خلال القرون الأولى للمسيحية مركزًا علميًا ولاهوتيًا بارزًا في الإمبراطورية الرومانية. فقد برزت تيارات فكرية عدة في تلك الحقبة، من أبرزها “الدوناتية” التي كانت تُعارض التثليث وتؤمن بوحدانية الله. ويُرجّح أن هذه الخلفية الفكرية، التي انتشرت بين سكان المنطقة، ساعدت لاحقًا في تقبّل الإسلام كديانة موحِّدة، عكس ما كان سائدًا في روما آنذاك.
وإلى جانب أوغسطين، يُذكر أيضًا أبولينوس، الذي يُعتبر أول روائي معروف في التاريخ، وقد كتب باللاتينية من الجزائر، ما يُبرِز الحضور العميق للثقافة المغاربية في تشكّل الفكر الديني والأدبي الغربي.
إن انتخاب شخصية متمسكة بهذا الإرث الروحي والفلسفي لتولي كرسي البابوية يُعدّ، في نظر كثيرين، اعترافًا غير مباشر بالمكانة التي تحتلها الجزائر في تاريخ المسيحية، لا باعتبارها فقط أرضًا أنجبت أحد أعظم مفكريها، بل كفضاء ساهم في صياغة فكر كنسي لا يزال حيًا حتى اليوم.
وفي ظل ما يشهده العالم من اختزال لتاريخ الشعوب، وتهميش لإسهامات الحضارات غير الأوروبية في صناعة الفكر الإنساني، فإن صعود البابا ليون الرابع عشر، المتمسك بفكر وُلِد في الجزائر، يمثل فرصة حقيقية لإعادة الاعتبار للعمق الحضاري المغاربي في تاريخ المسيحية والفكر العالمي.
قد لا يكون النسب معيارًا في هذا السياق، لكن الفكرة تظل قائمة: حين يجلس رجل على رأس أكبر مؤسسة دينية في العالم، متأثرًا بفكرٍ وُلد على أرض الجزائر، فإن لذلك رمزية ثقافية تستحق أن تُقرأ بإمعان، وأن تُحتفى بها دون حاجة إلى تأكيدات جينية أو هويات عائلية.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…