الجزائر لا تنتظر الشكر… لكنها تحتقر الغدر!
طبيعي جدًا أن ينزعج أي جزائري عندما لا يُذكر اسم بلده من طرف الإخوة الفلسطينيين، بالنظر إلى ما تبذله الجزائر من جهدٍ صادق ودعمٍ ثابتٍ للقضية الفلسطينية منذ عقود. من الطبيعي أن يُصدم أي مواطن جزائري من هذا الجحود، لأن الجزائر لم تتخلَّ يومًا عن فلسطين، لا في السراء ولا في الضراء، وقدمت ما لم تقدمه كثير من الدول قولًا وفعلاً.
لكن هذا التنكر ليس وليد اليوم. بل هو قديمٌ ومتجذر، وبدأت بوادره تظهر منذ سنوات، حتى في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات، عندما بدأت العلاقات بينه وبين الجزائر تعرف نوعًا من الفتور، خاصة أثناء مفاوضات اتفاقيات أوسلو. ورغم أن إعلان الدولة الفلسطينية تمّ في الجزائر في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، عندما سمحت بلادنا بانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني على أراضيها بحضور جميع الفصائل الفلسطينية وقادتها، وهو الاجتماع التاريخي الذي تُوّج بإعلان قيام الدولة الفلسطينية من قلب العاصمة الجزائرية، إلا أن عرفات، عندما قرر الذهاب إلى أوسلو للمصادقة على الاتفاقية، لم يُخبر الجزائر بذلك، مما أدى حينها إلى برود واضح في العلاقات بين البلدين.
ومع مجيء الرئيس عبد المجيد تبون، حاولت الجزائر إعادة الدفء إلى البيت الفلسطيني، فبادرت إلى تنظيم لقاء جامع لكل الفصائل الفلسطينية فوق أرضها، من أجل لمّ الشمل وتوحيد الصف وتثبيت اللحمة الوطنية التي تمنح الفلسطينيين القوة السياسية اللازمة لمواجهة الاحتلال ومخططاته. حضر الجميع إلى الجزائر، والتُقطت الصور، وصدرت البيانات، وتعالت التصريحات حول الوحدة والمصالحة، ثم انصرفوا كما جاءوا. لكن بعد 48 ساعة فقط من مغادرة الرئيس محمود عباس الجزائر، ظهر أمام الكاميرات وهو يزور وزير الدفاع الإسرائيلي في منزله، في مشهدٍ مثيرٍ للدهشة، كانت له دلالاته السياسية العميقة، لأنه ببساطة نسف كل الجهود التي بُذلت في الجزائر، كما حصل في محاولات سابقة جرت في السعودية ومصر وإيران، حيث يؤدي القادة الفلسطينيون اليمين على أستار الكعبة الشريفة بحضور الملوك والرؤساء، ثم ينصرفون وكأن شيئًا لم يكن.
إن تجاهل الجزائر وما تقدمه من دعمٍ مادي وسياسي ودبلوماسي للقضية الفلسطينية ليس جديدًا، لكنه أصبح اليوم لافتًا وصريحًا أكثر من أي وقت مضى. ربما لم يُفاجئني شخصيًا، لكن من المؤكد أنه صدم ملايين الجزائريين الذين يحملون فلسطين في قلوبهم، ويرفعون علمها في المسيرات والملاعب، بل حتى أفراد الجيش الجزائري رفعوا العلم الفلسطيني في مناسبات مختلفة، رغم أن القانون العسكري يمنع حمل أي علمٍ غير علم الدولة الجزائرية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد. فقد بثّت قناة “العربية” التابعة للملياردير السعودي الوليد بن طلال مؤخرًا تسريبًا صوتيًا مزورا منسوبًا للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، يُقلّل فيه من مشاركة الجزائر في حرب 1967، على عكس ما تؤكده شهادات قادة الجيش المصري أنفسهم الذين زاروا الجزائر وشاهدوا بأعينهم طائرات الميغ التي وفّرتها الجزائر لدعم القوات المصرية. وقدّمت الجزائر حينها الدعم العسكري والمالي رغم وضعها الاقتصادي الصعب، فبعد سنوات قليلة فقط من الاستقلال كانت البلاد تمر بمرحلة حساسة، وكانت أجور الفلاحين والعمال لا تُصرف في مواعيدها بسبب الضائقة المالية، ومع ذلك قدّمت الجزائر ما استطاعت من جهد ومال وسلاح نصرةً لمصر وفلسطين.
وفي تلك الفترة، كانت الجزائر تعيش تحولات عميقة بعد أحداث 19 جوان 1965، حيث تولّت السلطة إدارة البلاد وسط تحديات جسيمة، وطردت مجموعة فتحي الديب من مقر رئاسة الجمهورية بعدما كان يشغل دور المستشار للرئيس بن بلة وممثل المخابرات المصرية في الجزائر. ورغم كل هذه الظروف، ظلّ الموقف الجزائري ثابتًا، لا يساوم في دعم القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بينما جاء التسريب الأخير ليُضيف إساءة جديدة، تلاها صمت فلسطيني مطبق، كأن الأمر لا يعنيهم، وكأن الجزائر لم تقدّم شيئًا.
إن تنكّر بعض الإخوة الفلسطينيين لمجهودات الجزائر التاريخية يؤلم فعلاً، لأنه يطعن في وجدان شعبٍ أحبّ فلسطين من أعماق قلبه، واعتبرها قضيته الثانية، بل رفع علمها أكثر مما رفع علمه في كثير من المناسبات. لكن هذا الواقع، مهما كان مؤلمًا، يدعونا إلى التفكير الهادئ وإعادة النظر في مواقفنا وطريقة تعاملنا مع هذه الملفات. فالعلاقات لا تُبنى بالعاطفة فقط، بل بالمصالح المتبادلة والاحترام المتبادل.
لقد آن الأوان لأن تعيد الجزائر ترتيب أوراقها وفقًا لمصالحها الوطنية ومصلحة شعبها. فالوفاء لا يُقابل بالجحود، ومن يتنكر للخير لن يسيء إلا لنفسه. أما الجزائر، فستبقى على مبدئها، تدعم القضايا العادلة من موقع السيادة لا التبعية، ومن منطلق القيم لا المصالح الضيقة. وكما نقول في الجزائر: “نكار الخير ما يضرّش غير روحو… والغدّار دايمًا معروف.”
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…