الصين تتجه نحو استقلال تكنولوجي عن الهيمنة الأمريكية
تتحرّك الصين بخطى ثابتة نحو تحقيق استقلال تكنولوجي شامل، خاصة عن الولايات المتحدة، التي لطالما سيطرت على مفاصل رئيسية في الاقتصاد الرقمي العالمي. البداية كانت في مجال الملاحة، حيث رفضت الصين الاعتماد الكامل على نظام GPS الأمريكي، وفضّلت تطوير نظامها الخاص BeiDou، الذي أصبح اليوم نظام ملاحة عالميًا متكاملًا، يُستخدم على نطاق واسع داخل الصين وخارجها، في كل شيء من الهواتف الذكية إلى الصواريخ.
التحوّل لم يكن فقط في الملاحة. فمنذ فرض الولايات المتحدة حظرًا واسع النطاق على تصدير التكنولوجيا المتقدمة للصين—بما في ذلك منع توريد معدات الطباعة الحجرية المتطورة لتصنيع أشباه الموصلات، ومنع الشركات الأمريكية من تصدير المعالجات عالية الأداء—تغيّرت قواعد اللعبة. هذه العقوبات دفعت الصين إلى ضخ استثمارات هائلة في البحث والتطوير، وبدأت النتائج بالظهور خلال سنوات قليلة فقط.
فشركة Huawei عادت بقوة عبر إطلاق هواتف تعمل بشرائح متقدّمة من تصنيع محلي، ورغم أن تصنيع رقائق بحجم 1 نانومتر لا يزال في مراحله التجريبية، فإن الصين أثبتت قدرتها على تقليص الفجوة التكنولوجية بسرعة مذهلة. ولم تعد تعتمد بالكامل على المعدات الغربية، بل بدأت ببناء سلاسل توريد محلية، وأطلقت مشاريع وطنية لدعم صناعة الشرائح بدءًا من المواد الخام وانتهاءً بالمعدات.
في موازاة ذلك، بدأ التحوّل الجذري نحو الاستقلال البرمجي. إذ طورت الصين أنظمة تشغيل محلية لأجهزة الكمبيوتر والهواتف، وبدأت مؤسسات حكومية وشركات وطنية بالتحوّل التدريجي من أنظمة Windows وAndroid إلى أنظمة صينية مثل HarmonyOS وKylin، في خطوة تهدف إلى تقليص الاعتماد على البرمجيات الأمريكية، وضمان الأمن السيبراني الوطني.
الأمر لا يقتصر على الأنظمة. الصين بدأت بالفعل في اختبار بنية إنترنت مستقلة نسبيًا، تُعرف إعلاميًا بـ”الإنترنت الصيني السيادي”، يُدار بمعايير وطنية وبنية تحتية محلية، وإن لم تصل بعد إلى مرحلة الفصل الكامل عن الإنترنت العالمي.
وفي المجال العسكري، واصلت الصين تطوير منظومات تسلّح متقدمة، بما فيها أسلحة تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي والصواريخ فرط الصوتية، وسط تقديرات متزايدة بتفوّق بعض النماذج الصينية على نظيراتها الغربية في الأداء والتكلفة.
أما على صعيد الطيران المدني، فقد حققت الصين إنجازات معتبرة. فقد أطلقت طائرات مثل COMAC C919 المخصصة للرحلات الداخلية والإقليمية، وهي تحمل نسبة تصنيع محلي متزايدة، لكن لا تزال بعض مكوناتها – مثل المحركات – تعتمد جزئيًا على التعاون أو التكنولوجيا الغربية، مع جهود مكثفة جارية لتوطينها بالكامل في المستقبل القريب. روسيا، من جانبها، تسير على المسار ذاته بإحياء طائرات MC-21 وSJ-100 بدعم صناعي وطني كامل تقريبًا، كردّ مباشر على العقوبات الغربية.
في مجال الاتصالات، بينما لم يكتمل بعد تعميم الجيل الخامس في العالم، بدأت الصين خطوات نحو تطوير الجيل السادس، ويُتوقع أن تطلق خدماته التجارية خلال السنوات القادمة. أما على صعيد الحوسبة، فقد برزت الصين في مجال الحوسبة الكمومية، حيث طوّرت حواسيب تجريبية تفوقت في بعض المهام على نظيراتها الأمريكية، وتُستخدم حاليًا في مجالات مثل التشفير والفضاء.
وفي الساحة المالية، تتجه الصين إلى كسر الاحتكار الأمريكي للدولار عبر إطلاق اليوان الرقمي، الذي دخل حيز الاستخدام المحلي والتجريبي في عدد من الدول عبر اتفاقيات مع بنوك مركزية. الصين وروسيا بالفعل بدأتا اعتمادًا أوسع على العملات المحلية في التبادلات التجارية، وهو ما يجعل التتبع المالي الأمريكي أكثر صعوبة، ويفتح الباب أمام نظام مالي بديل.
كل هذه التحركات تؤشر إلى أن الصين لم تعد تُفكّر فقط في مجاراة الغرب، بل في تجاوزه. فبسرعة لافتة، تبني بنية تحتية تكنولوجية ومالية وصناعية لا تعتمد على الولايات المتحدة أو حلفائها. وبهذا، فهي ترسم ملامح قطب عالمي جديد، لا يسعى إلى المواجهة فقط، بل إلى إرساء نظام عالمي متعدد الأقطاب، بعيدًا عن الهيمنة الغربية التقليدية التي لم تعد تُقنع الكثيرين، لا اقتصاديًا ولا سياسيًا.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…