الغرب الاستعماري لم يتغيّر…العدوان شرعي إذا كان من “إسرائيل”!
صُدِم الرأي العام الدولي حين سارعت عواصم القرار الغربي إلى تبرير العدوان الجوي الإسرائيلي على إيران بوصفه “دفاعًا عن النفس”. ففي سابقة دبلوماسية مثيرة، لم تتردد باريس وبرلين وواشنطن، ومعها ممثلة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي كايا كالاس، في تبنّي الرواية الإسرائيلية علنًا، على الرغم من أن الضربة استهدفت أراضي دولة ذات سيادة، تبعد آلاف الكيلومترات عن “الكيان المعتدي”.
وإن لم يكن الدفاع عن النظام الإيراني هو محور النقاش، فإن جوهر المسألة يكمن في الانقلاب المفاهيمي الذي حصل، إذ متى أصبح شنّ غارة جوية على أراضي دولة مستقلة، عملاً مشروعًا يُصنّف في خانة “الرد الوقائي”؟ لقد كشفت هذه المواقف، وبلا مواربة، أن المفهوم الغربي للسيادة مرنٌ بقدر ما تخدمه السياسة، وأن المبدأ يُطوَّع حين تتعلّق القضية بـ”إسرائيل”.
هذا التوصيف المنحرف للهجوم العسكري يكشف أن الغرب لا يزال يزن الأحداث بمكيالين، اعتداءات تل أبيب تُمنح الغطاء السياسي، بل وتُعتبر “شرعية”، ما دامت تستهدف أطرافًا خارجة عن فلك واشنطن. أما حين تتجرأ دولة مثل إيران على امتلاك وسائل ردع استراتيجية، فتصبح تهديدًا للسلام العالمي. اللافت أن الكيان الصهيوني، بكل ما يمثله من مشروع استيطاني توسعي، لم يحتج إلى تقديم مبررات معقولة. يكفي أن يعلن عن “خطر نووي محتمل”، حتى تهرع عواصم الغرب لدعمه وتبني موقفه. وبينما تُرتكب الجرائم تحت راية “الأمن القومي الإسرائيلي”، تذوب السيادة الوطنية للدول الأخرى في قاموس التحالفات الاستراتيجية.
وفي هذا السياق، تظهر واشنطن باعتبارها الراعي الأكبر لهذا النموذج من الإفلات من العقاب. فالدعم الأمريكي لـ”إسرائيل” يتجاوز المال والسلاح، ليشمل الغطاء الدبلوماسي الكامل. وكل ما تنطق به تل أبيب يصبح، تلقائيًا، مرجعية سياسية للدول التابعة لها، بما في ذلك بعض العواصم العربية التي فُرض عليها التطبيع تحت ضغط أمريكي مباشر.
إن هذا المسار، الذي يُحوّل العواصم العربية إلى مجرد أذرع فرعية للسياسات الصهيونية، يؤدي حتمًا إلى فقدان القرار السيادي، وتحويل تلك الدول إلى “توابع وظيفية”، لا تملك أن تعارض أو ترفض. وهو ما يُعد أخطر من مجرد تطبيع سياسي؛ إنه شكل جديد من الاحتلال غير المعلن.
أما إيران، فسواء امتلكت السلاح النووي أم لا، فإن هدفها المعلن من تطوير البرنامج النووي لا يخرج عن نطاق الردع الاستراتيجي. فالتاريخ أثبت أن السلاح النووي – حين يُمتلك – يتحول إلى أداة توازن، لا إلى وسيلة هجوم. وأوضح مثال على ذلك هو باكستان، التي لم تستخدم ترسانتها النووية رغم الأزمات مع الهند، مكتفية بردع الخصم ومنع أي اعتداء محتمل.
اللافت أن الجهة الوحيدة التي استعملت السلاح النووي في التاريخ كانت الولايات المتحدة، في هيروشيما وناغازاكي، ما أودى بحياة مئات الآلاف من المدنيين، ووضع نهاية دموية للحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، لا يُناقش الغرب شرعية امتلاك السلاح النووي، إلا حين يتعلق الأمر بدول الجنوب.
ورغم ذلك، تريد إسرائيل والولايات المتحدة ومعهما أوروبا، حرمان إيران من حقها السيادي في تطوير قدراتها. الهدف الحقيقي ليس الأمن الإقليمي، بل إضعاف طهران سياسيًا، وتجريدها من أوراق التفاوض. والدليل أن فرنسا، على لسان رئيسها، لم تتردد في التهديد باستخدام الردع النووي ضد روسيا، دون أن يثير ذلك أي استنكار دولي. بل ذهب ماكرون إلى حد اقتراح تحويل الترسانة النووية الفرنسية إلى “مظلة أوروبية” في حال انسحبت واشنطن من القارة العجوز.
هكذا يصبح النووي الفرنسي “شرعيًا”، بينما يُعدّ الإيراني أو الكوري الشمالي تهديدًا مرفوضًا. إنها سياسة “النووي الحلال والحرام”، حيث يُكافأ الحليف ويُعاقب الخصم، بغض النظر عن المبادئ المعلنة في القانون الدولي.
أزمة إيران، في جوهرها، ليست سوى عرض من أعراض غياب العدالة العالمية، واستمرار هيمنة العقيدة الاستعمارية القديمة بلباس حديث. فالدول القوية لا تزال تملي إرادتها، والدول النامية تُمنع من امتلاك أدوات الردع، حتى تبقى في الهامش الاستراتيجي خاضعة، أو في أفضل الأحوال، محايدة. بل إن الغرب يرفض حتى مشاريع التنمية الاقتصادية والسيادية في بلداننا، تحت ذرائع بيئية أو إنسانية، ليضمن استمرار هذه الدول كـ “أسواق خاضعة”، تُستهلك فيها منتجات الشمال، وتُنهب منها الموارد، وتُهاجر منها العقول.
إن ما يُمارَس اليوم ضد إيران يُعدّ تكثيفًا لعقيدة استعمارية قديمة، تعتمد القوة المفرطة والتحالفات الفوقية، وتسعى لإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية بما يخدم مصالح قوى الهيمنة، لا مبادئ العدالة أو القانون. وهنا، تتضح الحاجة إلى قراءة هذه التطورات من منظور مختلف: فالغرب، مهما تبنّى خطاب حقوق الإنسان، لا يُخفي وجهه الحقيقي حين يتعلّق الأمر بسيطرة الجغرافيا، والتحكم في الموارد، وضمان أمن الحليف الإسرائيلي.
وعليه، فإن زمن السذاجة الاستراتيجية قد انتهى. فمن لا يملك أوراق ردع، يُقصى من الطاولة. ومن لا يُفاوض من موقع قوة، يُفرض عليه مصير التبعية. والدرس الأوضح من كل ذلك، أن العالم لا يحترم الضعفاء، مهما حسنت نواياهم.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…