انتكاسة لحرية الفكر والنقاش
انتشر مؤخراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيديو لإمام أثار ضجة واسعة عندما طالب بسجن الأستاذ جاب الخير، محاولًا النيل من سمعته والتشكيك في مصداقيته. حيث لم يكتفِ الإمام بتوجيه الانتقاد للأستاذ، بل استخدم أسلوب الشتائم والاتهامات الظالمة، مما يعكس بداية مرحلة من التطرف الفكري التي قد تفتح الباب على مصراعيه للتهجم على آراء مخالفة. هذه الحادثة تعيد للأذهان فترات كانت فيها آراء المفكرين والمثقفين مهددة بسبب اختلافاتهم الفكرية.
القضية التي أثارها الأستاذ جاب الخير حول حرية الصيام ووجود إمكانية الإفطار، ليست جديدة في الفقه الإسلامي. فقد استند جاب الخير إلى تفسيره لآية قرآنية تدعو المسلمين إلى تدبر القرآن الكريم والابتعاد عن التفسير الجامد الذي قد يؤدي إلى فرض إلزاميات غير مبررة. ما يثير التساؤل هنا هو أن هذه القضية قد أثيرت في بعض الجاليات المسلمة في أوروبا، حيث تُنصح الدول الإسلامية مواطنيها الذين يعملون في دول الغرب بدفع فدية بدل الصيام في الأيام التي يتعذر عليهم الصيام بسبب العمل الشاق. هذا التفسير معتمد من وزارات الشؤون الدينية في بعض البلدان، ولم يكن هناك في ذلك الوقت أي اعتراض من مشايخ أو أئمة على هذا التفسير، وهو ما يثير علامات استفهام حول الهجوم الحالي على الأستاذ جاب الخير.
الإمام الذي شنّ الهجوم على جاب الخير اتهمه بـ “إنكار معلوم من الدين بالضرورة”، وهي ذات التهمة التي يوجهها المتطرفون عادة ضد كل من يخرج عن المألوف أو يعبر عن رأي مخالف. وهذا الهجوم على جاب الخير يعيد للأذهان التشريعات التي أدرجتها حركات الإسلام السياسي، مثل الإخوان المسلمين، في بعض البلدان العربية، حيث تم نقلها إلى الجزائر في عهد السعيد بوتفليقة عبر المادة 144 مكرر.
وعلى الرغم من أنني شخصيًا ضد الإفطار العلني الذي قد يزعج الآخرين، إلا أنني لا أرى من الحكمة أو العدالة تحويل هذه المسألة إلى قضية رأي عام، لأن الصيام في النهاية مسألة بين المسلم وربه. أما أن يتم مطالبة بسجن أستاذ لمجرد طرحه رأيًا فقهيًا مدعومًا بتفسيره الخاص، فهذا يعد تجاوزًا لحرية الفكر وحق التعبير.
حتى في مصر، حيث أثار الصحفي حسين هيكل جدلاً كبيرًا عندما صرح بأن حكام بني أمية لم يصوموا، بما فيهم الخليفة معاوية، لم يتم سجنه أو محاكمته على هذه التصريحات. بل أُصدرت فتوى من فقهاء البلاط تبرر هذا القول. وهذا يوضح أن النقاشات الفقهية يمكن أن تكون شائكة، ولكنها لا يجب أن تتحول إلى محاكمات فكرية.
مما يزيد الطين بلة أن هذا الإمام الذي شنّ الهجوم على جاب الخير، اعترف في تصريحاته بأن الصيام في البداية لم يكن واجبًا، بل كان أمرًا تدريجيًا، وهو ما يتفق مع ما ذكره جاب الخير في تفسيره. وفي الحقيقة، لم يكن الصيام ملزمًا في بداية الإسلام، بل تدرج المسلمون في فرضه. وقد اعتمد العديد من العلماء على هذا التفسير، بينما يحاول البعض اليوم استخدام مسألة “الناسخ والمنسوخ” لتبرير مواقف متطرفة ومتحجرة.
إن مطالبة هذا الإمام بسجن الأستاذ جاب الخير تعتبر مسألة خطيرة تتجاوز حدود الخلاف الفكري إلى محاولة فرض وصاية على الفكر والمجتمع. وهي تذكير مؤلم بتلك الفترات التي كانت فيها حرية التعبير مهددة في الجزائر وفي العديد من البلدان العربية، ويجب أن نتذكر جميعًا أن المجتمعات المتقدمة هي تلك التي تسمح بتعدد الآراء وتقبل النقاشات الفكرية.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا الهجوم يعكس محاولات مستمرة من بعض الأئمة المتطرفين للسيطرة على المجتمع، وتوجيهه وفقًا لتفسيرهم الضيق للدين. بينما يجب أن نعلم جميعًا أن النقاشات الفقهية يجب أن تبقى مفتوحة، وأن احترام الاختلاف في الآراء هو السبيل الوحيد لبناء مجتمع متسامح وغير متعصب.
في الجزائر، نحن بحاجة إلى فتح الأفق أمام حرية الفكر، بعيدًا عن النزعات التكفيرية التي تهدد بتدمير نسيجنا الاجتماعي. إن النقاش حول المسائل الدينية والفكرية يجب أن يكون محكومًا بالقيم الإنسانية والتسامح، وليس محكومًا بمنطق الاستبداد الفكري.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…