بين البربر والأمازيغ.. شتائم الغزاة أم هوية الأحرار؟
شاهدت مؤخرًا على قناة “سكاي نيوز عربية” الدكتور بلغيث يتحدث عن العلاقات الجزائرية الفرنسية المتأزمة حاليًا. غير أن ما لفت انتباهي، هو قوله بأن مصطلح “أمازيغية” هو اختراع فرنسي، مفضلًا استخدام مصطلح “بربر”، الذي أطلقه الرومان على سكان الجزائر. وأضاف بأن الجزائريين هم عرب ومسلمون.
لا أدري لماذا ذكّرني هذا الطرح بأفكار بقايا حزب ميشال عفلق، المؤسس المسيحي لحزب البعث العربي، بشقّيه السني في العراق والشيعي في سوريا. كما تذكرت قول الراحل العظيم هواري بومدين، عندما وصف حزب البعث بـ”البلادة”، وهو موقف كلّفه حياته لاحقًا بعد أن انتقم منه صدام حسين، وسط صمت مطبق من هذا التيار الممسوخ الهوية.
ليست هذه أول مرة ألاحظ فيها انحرافات الدكتور بلغيث فيما يخص القضايا التاريخية؛ فقد صرّح سابقًا بأن الثورة الجزائرية انطلقت بأمر من جمال عبد الناصر عبر الهاتف، وهو تصريح ينزع عنه كل مصداقية. فالثورة ليست بعيدة تاريخيًا، ومن كتبوا عنها كانوا شهودًا على أحداثها، عايشوا قادتها، وكتبوا بإشرافٍ مباشر منهم قبل أن يرحلوا واحدًا تلو الآخر. نتمنى الشفاء وطول العمر للأحياء منهم.
يؤسفني أن البعض في الجزائر يسهم، عن قصد أو جهل، في تشويه تاريخنا الوطني، باحثين عن “أسياد” من المشارقة يمنحونهم شرعية أو هوية. وهم يتغافلون عن حقيقة أن هؤلاء لا يتميزون عنا لا تاريخًا ولا ثقافة ولا ذكاء. فكيف يُعقل أن نُروّج لفكرة أن قادتنا تلقّوا أمر انطلاق الثورة من خارج الوطن، متجاهلين بذلك التضحيات الجسيمة والنضال الطويل الذي خاضه الشعب الجزائري، والذي أفضى إلى تأسيس الحركة الوطنية وانطلاق الثورة التحريرية؟
ورغم كوني من الصحفيين المطالبين باحترام المثقف، وتوفير ظروف معيشية تحفظ له كرامته، باعتباره روح الأمة، إلا أنني أنزعج من بعض الانحرافات الخطيرة التي تسيء للهوية الجزائرية، وتبحث كالتائه عن من يمنحها هوية، بينما نحن نمتلك من التاريخ والثقافة ما يكفي لبناء أمم.
وقد أعجبني الباحث السوري فائز السواح حين قال إن تاريخ المشرق صنعته هجرة شعوب شمال إفريقيا، وليس العكس كما يروّج له بقايا البعث في الجزائر.
الطعن في تاريخنا القريب وسكوت السلطات والمثقفين والسياسيين على تصريحات هذا “المؤرخ”، الذي يقول إن عبد الناصر أمر بانطلاق الثورة، هو جريمة بحق الشهداء، الآباء، والأجداد، وبحق ذاكرة الوطن ومستقبل الأجيال. وكان الأولى أن يُسأل الدكتور بلغيث: ما هو رقم الهاتف؟ وفي أي بيت كان؟ ومن استقبل المكالمة؟ هل هو بوضياف، بن بولعيد، كريم بلقاسم، رابح بطاط، أم ديدوش مراد؟ وهل كانت لدينا هواتف أرضية فعّالة آنذاك؟ أم أن هذا مجرّد عبث فكري؟
المصيبة الأعظم أن يكون هذا الأستاذ يدرّس تاريخ الجزائر للطلبة، فهذه كارثة حقيقية وتزوير موصوف، ومدفوع الأجر من أموال دافعي الضرائب.
في ظهوره على قناة “سكاي نيوز” الإماراتية، التي أصبحت في الآونة الأخيرة منبرًا دعائيًا للمخزن المغربي وتنشر خرائط لا تعترف بالصحراء الغربية، صرّح الدكتور بلغيث برفضه مصطلح “أمازيغ”، مفضّلًا استخدام “بربر”، مدعيًا أن “أمازيغ” مصطلح فرنسي الصنع. والسؤال: لماذا يفضل مصطلحًا يحمل شتيمة رومانية تعني “الشعب الهمجي وغير المتحضّر”، ويرفض مصطلحًا يعني “الأحرار”، وهو يتماشى تمامًا مع تاريخ الجزائر المقاوم؟ أي منطق هذا الذي يفضّل الشتيمة على الحرية؟ هل نترك التفسير للأطباء النفسانيين؟ أم لأطباء الأمراض العقلية؟
الكتابات التاريخية حول الجزائر القديمة كتبها غالبًا غير الجزائريين، لكنها تظل مراجع أساسية، ولا عيب في أن يكون مصطلح “أمازيغي” ظهر أولًا في كتابات الفرنسيين، ما دام معناه مشرّفًا لسكان شمال إفريقيا. وبالمناسبة، لو فتّشنا في كتابات الأستاذ بلغيث لوجدنا آلاف المصطلحات من أصول فرنسية، رومانية، أو غيرها، فهل نرفض كل ذلك أيضًا؟
فليعلم الأستاذ بلغيث، مثلًا، أن مصطلح “عروبي” في المغرب يطلق إلى اليوم بمعنى “الإنسان المتخلف من الريف”، أي أنه أيضًا شتيمة في سياق آخر.
أما حديثه عن أن كل الجزائريين “عرب مسلمون”، فهو يُغفل حقائق كثيرة. فالعرب ليسوا جميعًا مسلمين؛ فهناك عرب يهود، ومنهم وزراء في إسرائيل، وعرب مسيحيون مثل سكان معلولة في سوريا، وهم آراميون سريان. حتى في لبنان، ليس كل العرب مسلمين. وفي المقابل، الأغلبية الساحقة من المسلمين حول العالم ليسوا عربًا: من باكستان، الهند، الصين، إيران، وتركيا، ولا أحد منهم تنكر لهويته الأصلية أو ادّعى العروبة مقابل الإسلام.
ولنأخذ تركيا مثلًا؛ الأتراك مسلمون لكنهم لا يعتبرون أنفسهم عربًا، بل يعادون العرب في بعض الأوساط، حيث يسمونهم “الكلب الأسود” حتى اليوم!
أما أصل كلمة “عرب”، فبحسب آخر الأبحاث، فهي سريانية الأصل وتعني سكان البادية، وهي لا تمثل عرقًا معينًا، بل ترتبط بجغرافيا شبه الجزيرة العربية، التي لا يعتبر سكانها الجزائري عربيًا مهما ادّعى.
يتحدث الأستاذ بلغيث كثيرًا عن مالك بن نبي، ربما بدافع جهوية معينة، ويدافع عنه بشراسة رغم أن فكره ينتمي إلى نهضة إسلامية شاملة، بينما ما يهمني شخصيًا هو نهضة الجزائر، لا نهضة ماليزيا أو تركيا كما يريد أنصار الهوية المستعارة.
عندما زرت منطقة عين الصفراء في التسعينات، وجدت في كل قرية تقريبًا متحفًا، وتلك المنطقة من أغنى مناطق الجزائر من حيث الآثار. سألْتُ مرافقي، الأستاذ الراحل يوسف إليو، فقال لي إن قائد الجيش الفرنسي خلال الاستعمار أمر بوقف الحفريات خوفًا من اكتشاف أن أول إنسان على الأرض قد عاش هناك. كيف يُعقل أن يكون أقدم إنسان من الجزائر بينما الأستاذ بلغيث لا يرى الجزائر إلا من خلال أعين المشارقة؟
ولدينا “إنسان سطيف” الذي يعود تاريخه إلى 2.4 مليون سنة، أليس هذا وحده كافيًا ليصمت الأستاذ بلغيث عن “هرائه”؟
الشيخ العلامة مبارك الميلي، أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين، ألّف كتابًا في تاريخ الجزائر قبل الإسلام. ورغم بساطة أدواته العلمية، يُعتبر الكتاب من أهم المراجع التي يجب تدريسها في المعاهد الجزائرية. تحدّث فيه عن الكاهنة باحترام، وناقش العصر الحجري وغيره من مراحل تاريخ الجزائر. لم يكن هذا الشيخ ممسوخ الهوية كما نرى اليوم، ولم يخجل من الاعتراف بتاريخ بلاده، بل اعتبره مصدر فخر واعتزاز، وهو ما أكده الإمام عبد الحميد بن باديس نفسه في مقدمة الكتاب برسالة مؤثرة تعتبر أن هذا العمل منقذٌ للأمة الجزائرية.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…