تصويت الجزائر في مجلس الأمن… منطق الدولة ينتصر
تعالت أصواتٌ عديدة تندّد بتصويت الجزائر لصالح المشروع الأميركي المتعلق بغزة، معتبرة أنّ الموقف يمثّل –حسب رؤيتها– انحيازًا لنزع سلاح الفصائل في القطاع، وعلى رأسها حركة حماس التي يرى منتقدوها أنها تحوّلت خلال السنوات الماضية إلى طرف سياسي وعسكري أثار جدلاً واسعًا في الساحة العربية، وارتبط اسمه بتجارب مؤلمة أدّت إلى اهتزاز استقرار عدد من الدول خلال ما سُمّي بـ«الربيع العربي».
ويطرح أصحاب هذا الطرح تساؤلاً، أيّ سلاح بقي في غزة حتى «تنزعه» الجزائر؟ خصوصًا وأنّ حماس نفسها دخلت في مفاوضات حول ترتيبات أمنية في شرم الشيخ، تتضمن –وفق مصادر متعددة– نقاشات حول الوضع العسكري في القطاع، مقابل ضمانات تخصّ قياداتها وممتلكاتهم داخل وخارج فلسطين، وهي تفاهمات تُقال إن الولايات المتحدة ومصر وتركيا كانت جزءًا من هندستها. فهل استُشيرت الجزائر أصلًا قبل أن تذهب حماس إلى تلك الطاولة؟
في حقيقة الأمر، يعكس تصويت الجزائر في مجلس الأمن انتقالًا من منطق الحركات الثورية التقليدية –الذي لم يعد مناسبًا لواقع اليوم– إلى منطق الدولة، وهو التحوّل الذي تحتاجه الجزائر في هذه المرحلة الحساسة. فالمطلوب حماية مصالحها العليا، لا الدفع نحو تبنّي مواقف لا أحد يعرف بدقّة خلفيات الأطراف الفاعلة فيها ولا ارتباطاتها ولا أهدافها الاستراتيجية.
وعند الحديث عن حركة حماس، يكفي الرجوع إلى شهادات وشبهات تاريخية عديدة، من بينها ما ورد في مذكّرات شيمون بيريز، أو تصريحات الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، أو روايات قيادات فلسطينية بارزة، تحمّل الحركة مسؤولية أحداث دامية في قطاع غزة، من بينها مقتل المئات من كوادر حركة فتح خلال سيطرتها على القطاع سنة 2007. كما أنّ حركة حماس، بشهادة بعض قادتها، لم تكن يومًا منخرطة في مشروع بناء دولة فلسطينية بالمعنى المؤسساتي، وهو ما أكده محمود الزهار نفسه في تسجيل معروف متداول على شبكات التواصل.
بعد اتفاقية أوسلو، كانت غزة بوابة الفلسطينيين نحو العالم، بمطارها ومينائها ومؤسساتها الناشئة، قبل أن تتغير المعادلة كليًا عقب أحداث 2007، وما تلاها من حصار وانقسام أضعفا المشروع الوطني الفلسطيني. ولهذا، فإن توجيه اللوم إلى الجزائر وكأنّها المتسبب في «نزع السلاح» أمر يفتقر إلى الدقّة، بما أن ترتيبات السلاح والتفاهمات الأمنية جرى التفاوض بشأنها بين الفاعلين المعنيين مباشرة، وليس في الجزائر أو برعايتها.
إنّ الانتقال الجزائري نحو منطق الدولة خطوة إيجابية مطلوبة في هذا الظرف الدولي الصعب، لأنّ السياسة الخارجية يجب أن تُبنى على حماية المصالح الحيوية للبلاد، لا على المجاملات أو الشعارات. ومن يحمّل الجزائر ما لا تتحمله، عليه مراجعة مواقفه، لأنّ ما يجري على أرض الواقع يثبت أنّ الأطراف المنخرطة مباشرة في الملف الفلسطيني –وفي مقدمتها حماس– اتخذت قراراتها وتفاوضت على مستقبل القطاع بمعزل عن الجزائر.
ومن المؤسف أنّ بعض الأصوات داخل الجزائر تحاول جرّ البلاد إلى صراعات خارجية لا علاقة لها بمصالح الشعب الجزائري، وذلك بدوافع سياسية أو إيديولوجية، وبخطاب يستحضر مقارنات غير دقيقة، مثل تشبيه معارضي حماس داخل غزة بتجارب تاريخية لا علاقة لها بالسياق الفلسطيني. فالعائلات الفلسطينية التي ترفض سيطرة الحركة ليست جماعات «عميلة»، بل مكوّنات أصيلة من الشعب الفلسطيني لها رؤيتها الخاصة، سواء اتُّفق معها أم لا.
لم يكن تصويت الجزائر في مجلس الأمن دعماً لنزع سلاح المقاومة كما يُروّج البعض، لأنّ موضوع السلاح حُسم –عمليًا– في مسارات تفاوضية شاركت فيها حماس نفسها، ولم تستشر الجزائر فيها ولم تُخطرها بأي موقف قبل اتخاذ قراراتها. الجزائر لم تُستشَر حين قررت الحركة خوض عملياتها العسكرية، ولم تُستشَر حين شاركت في محادثات شرم الشيخ.
ما يجب إدراكه أنّ الهجوم على الجزائر بسبب هذا التصويت ليس سوى امتداد لثقافة جلد الذات لدى البعض، ونتيجة خلط بين المواقف الأيديولوجية والمصالح الوطنية. وعلى الدولة الجزائرية أن تواصل الدفاع عن سيادتها ومصالحها وفق منطق الدولة، بعيدًا عن ضغط المزايدات السياسية أو الحملات الشعبوية.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
هل يدفع ماكرون فرنسا نحو الحرب؟
تتوسع المخاوف داخل الأوساط السياسية والإعلامية في أوروبا بعد إعلان باريس نيتها تسليم نحو م…






