زحف الشعوذة.. منابر الدجل تهدد وعي الجزائريين
انتشرت في الآونة الأخيرة مشاهد مقلقة على مواقع التواصل الاجتماعي، تُظهر مجموعات من أشخاص ملتحين وهم يقتحمون مقبرة، ويباشرون عملية “استخراج السحر” وسط جمهور مذهول، وكأننا عدنا إلى مشاهد محاكم التفتيش في أوروبا، حين كانت المرأة تُرمى بالحجارة لمجرد أن مظهرها لا يعجب الكاهن، أو أنها رفضت طاعته. من يمعن النظر في هذه الصور لا يرى فقط اعتداءً على حرمة الموتى، بل يلمح انهيارًا تدريجيًا للمنطق، وللعقل، ولما تبقى من اتزان اجتماعي في مواجهة موجة من التدين الشعبوي الذي يخلط بين الدين والخرافة.
ما نشهده اليوم لا يندرج في إطار “الغيرة على العقيدة” كما يدّعي البعض، بل هو مؤشر مقلق على تصاعد سلطة “المتصدرين” للمشهد الديني خارج الأطر المؤسساتية، والذين باتوا يصدرون الفتاوى عبر فيسبوك وتيك توك ويوتيوب، ويتلاعبون بعقول الناس عبر قصص “الجن”، و”الربط”، و”السحر المدفون”، مستغلين هشاشة الوعي، وانعدام الرقابة الفعلية، والفراغ الثقافي الذي يعيشه جزء واسع من المجتمع.
ففي ظل هذا الواقع، تحولت الرقية الشرعية إلى مشروع تجاري قائم بذاته، يدر أرباحًا بملايين الدينارات، دون أي رخصة طبية أو إشراف علمي. أصبح بعض “الرقاة” يفتون في الأمراض، يشخصون الحالات النفسية، يبيعون الأعشاب والزيوت، ويدّعون أنهم يعالجون السرطان والعقم والمسّ الشيطاني، بينما لا يملكون من أدوات العلم سوى خيال خصب ولباس تقليدي يجلب الثقة الساذجة.
بل الأخطر من هذا، أن بعض هؤلاء أطلقوا فتاوى صادمة، مثل تحريم الحمّام التقليدي على النساء، أو اعتبار الحجاب إلزاميًا من أول سنة متوسطة، أو القول بأن الرياضة النسوية “حرام”. ورأينا في مقاطع أخرى كيف يُمنع الغناء، ويُكفَّر الفنان، وتُحرّم مظاهر الفرح باسم الدين، بينما تُترك أزمات البطالة، والعنف، والإدمان، والانتحار، دون أدنى اهتمام من نفس الجهات التي تُفتينا في شكل الحجاب وطول الجلباب.
هذه الممارسات ليست مجرد ظواهر عابرة. إنها امتداد لتيار فكري يريد فرض سطوته على المجتمع باسم الدين، لكنه يُفرغه من جوهره الروحي، ويستبدله بخليط من المحظورات والتابوهات والخوف من الجن والعين والسحر. إنه مشروع يخاطب العاطفة ويُغيب العقل، ويجد في ضعف المنظومة التعليمية، وضبابية الخطاب الديني الرسمي، وتراجع الثقافة العقلانية، بيئة خصبة للانتشار.
ويكفي أن نتابع دعوة أحد المحامين مؤخرًا لتصوير من لا يصوم رمضان و”الإبلاغ عنه”، حتى نفهم إلى أي مستوى وصل خطاب الوصاية الدينية. إن هذه الدعوة تشبه، في بنيتها الذهنية، تلك الممارسات التي شجعتها الأنظمة الفاشية حين حرّضت المواطنين على التجسس على بعضهم بعضًا، فصارت الثقة معدومة، والخوف سيدًا.
وما يزيد الطين بلّة هو الصمت أو التواطؤ غير المعلن من بعض المنابر التي لا تتحمل مسؤوليتها في التوعية، أو التي تخشى الاصطدام مع هذه الموجة المتطرفة، فتفضل التماهي معها. في المقابل، يغيب الصوت الديني العقلاني، القائم على الفقه الوسطي، والتأويل المتزن، والمعرفة العلمية، وسط ضجيج التهويل والتخويف والتكفير.
التحولات التي يعرفها المجتمع الجزائري اليوم تحتاج إلى مواجهة فكرية حقيقية، لا بالمنع أو القمع، بل بإعادة الاعتبار للعلم، للتعليم، للمنطق، للثقافة، وبإعادة بناء منظومة دينية قائمة على الرحمة لا على الترهيب، على التنوير لا على التخويف، وعلى الفهم لا على الشعارات.
إن الحرب ضد الشعوذة ليست حربًا ضد الدين، بل دفاعًا عنه من التوظيف الأيديولوجي، ومن الاستغلال المادي، ومن التحريف العاطفي. فالدين الذي لا يحترم العقل ليس دينًا، بل خرافة.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…