فرنسا وتبييض الأموال المنهوبة
غضّت فرنسا الطرف لعقود عن تدفّق أموال منهوبة من الجزائر وغيرها من دول الجنوب إلى مصارفها وأسواقها العقارية. فتحت أبوابها بصمت للمهربين وأصحاب النفوذ الذين لم يجدوا بيئة أكثر أماناً من باريس لإيداع ثرواتهم، بينما كانت الشعوب في أوطانهم تُكدّ تحت خط الفقر، وتُخدع بخطب عن النزاهة والعدالة الاجتماعية.
استقبلت العاصمة الفرنسية منذ التسعينيات مسؤولين جزائريين سابقين وحاليين على اختلاف مناصبهم، وزراء، ولاة، رجال أعمال متصلون بدوائر القرار. معظمهم اشتروا شققًا فاخرة في الدائرة السادسة بباريس، أو في نيس وكان، عبر شركات واجهة أو حسابات بنكية باسم الزوجة أو الابن. لم تسألهم فرنسا عن مصدر الأموال، ولم تتحرك هيئاتها الضريبية حينها. بل رحّبت بهم، وفتحت لهم أبواب بنوك مثل BNP Paribas و Société Générale، حيث كانت التحويلات المالية الكبيرة تُمرّر من دون ضجيج، ما دامت لا تُحرج الدبلوماسية الفرنسية.
ولعل المثال الأكثر وضوحًا هو حالة الوزير الجزائري السابق للصناعة عبد السلام بوشوارب، الذي حكم عليه القضاء الجزائري في 2020 بعشرين سنة سجنًا نافذًا بتهم تتعلق بتبييض الأموال والثراء غير المشروع، بينما ظل مقيمًا في فرنسا في شقة فاخرة بالدائرة 16 لباريس، دون أن تحرك السلطات الفرنسية ساكنًا. لم تسلمه رغم المطالبات الرسمية، ولم تفتح أي تحقيق جنائي بشأن ممتلكاته ولا مصادر أمواله. وبذلك تصبح فرنسا، لا مجرد مُستضيفة لصاحب المال المنهوب، بل شريكة صامتة في غسله وشرعنته.
ثم، فجأة، وبعد أن تدهورت العلاقات بين باريس والجزائر، أخرجت فرنسا من جيبها “ورقة الشفافية”. بدأت تتحدث عن “تجميد أصول عشرين مسؤولاً جزائرياً” بدعوى محاربة الفساد. لكن الحقيقة أن هذه الخطوة جاءت كأداة سياسية لا كتحرك قضائي نزيه. لماذا لم تتحرك فرنسا حين تدفقت تلك الأموال؟ لماذا لم تُفتح أي قضية أمام محاكمها حين كانت كل المؤشرات تؤكد وجود أموال مشبوهة؟ ولماذا تكتفي اليوم بمهاجمة خصومها السياسيين في الخارج بينما تصمت عن المقربين منها الذين يمارسون السلوك نفسه؟
إن تواطؤ فرنسا في منظومة تبييض الأموال ليس سراً. تقارير دولية، من بينها تقارير Global Financial Integrity، أكدت أن باريس من أبرز العواصم التي تستقبل رؤوس أموال مشبوهة من دول إفريقيا الفرانكوفونية، وأن نسبة كبيرة من هذه الأموال مصدرها ثروات منهوبة من المال العام، لا من نشاطات اقتصادية مشروعة.
فرنسا التي تمنح الإقامات الفاخرة لأبناء الطبقة الفاسدة، وتبيع لهم الشقق الفاخرة بلا أسئلة، لا يمكنها أن تقدم نفسها كقوة أخلاقية في مواجهة الفساد. هي طرف في المعادلة، بل شريك كامل. وإن أرادت تنظيف صورتها، فلتبدأ من الداخل، من شبكات المحامين والبنوك والسماسرة الذين يُسهّلون غسل الأموال، لا من تعليق المشانق الدبلوماسية على من يرفض الانصياع السياسي.
الجزائر، بطبيعة الحال، مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى ببناء مؤسسات رقابية فعالة، وبفتح ملفات الثروة غير المبرّرة دون تردد. لكن هذه المهمة يجب أن تبقى جزائرية، سيادية، بعيدة عن منطق الانتقائية الخارجية. فليس من المقبول أن تسكت فرنسا عن الأموال حين تُضخ، ثم تدّعي الشفافية حين تتعثر المفاوضات مع الجزائر في قضايا الهجرة أو الساحل أو الغاز.
لقد آن الأوان لتفكيك هذا النفاق الهيكلي. من أراد محاربة الفساد، فعليه أن يبدأ من بنوكه قبل أن يُحاضر على الآخرين. وما لا تدركه فرنسا، أو تتغافل عنه عمدًا، هو أن سياسة التجميد الانتقائي للأصول تُلحق بها ضررًا أكثر مما تحقق من مكاسب سياسية مؤقتة. فعندما تتحول دولة مثل فرنسا إلى جهة تُهدّد بتجميد ممتلكات وأموال لأسباب دبلوماسية، فإنها توجّه رسالة خطيرة لكل من اختار أن يثق في منظومتها المالية والقانونية، سواء من مستثمرين أو أصحاب رؤوس أموال. مضمون هذه الرسالة واضح، لا ضمانات حقيقية لحماية ممتلكاتك إذا تدهورت العلاقات مع باريس. بهذا السلوك، تُقوّض فرنسا جاذبيتها الاقتصادية وتدفع رؤوس الأموال إلى البحث عن وجهات بديلة أكثر استقرارًا وحيادًا، في الخليج وآسيا وحتى في بعض الدول الإفريقية الناهضة. وما تعتبره اليوم ورقة ضغط سياسية، قد يتحول غدًا إلى نزيف اقتصادي وخسارة لأحد آخر عناصر نفوذها الناعم في الجنوب.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …