‫الرئيسية‬ الأولى قانون التعبئة يهزّ الأقنعة.. من يخشى الجزائر القوية؟
الأولى - الوطني - مقالات - 11 يوليو، 2025

قانون التعبئة يهزّ الأقنعة.. من يخشى الجزائر القوية؟

قانون التعبئة يهزّ الأقنعة.. من يخشى الجزائر القوية؟
صادق البرلمان الجزائري في الثامن من يوليو 2025 على قانون جديد للتعبئة العامة، في خطوة اعتبرتها الدولة ضرورة سيادية لتنظيم القدرات الوطنية لمواجهة التحديات الاستراتيجية والأمنية المستجدة.

غير أن هذه الخطوة لم تمر مرور الكرام لدى بعض المنظمات الحقوقية الدولية، التي أصدرت في 11 يوليو بيانًا مشتركًا يعبّر عن “قلق بالغ”، ويصف القانون والتعديلات المتزامنة في قانون الإجراءات الجزائية بأنها “تهديد للحريات” و”خطر على حقوق الإنسان”. في طليعة هذه المنظمات نجد الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان (FIDH) والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب (OMCT)، اللتين أصدرتا البيان في إطار ما يسمى بـالمرصد من أجل حماية المدافعين عن حقوق الإنسان، ووقّعت عليه إلى جانب عدد من الهيئات الأخرى المرتبطة بشبكات غير حكومية تنشط في شمال إفريقيا وأوروبا.

البيان، بصياغته الحادة، تجاوز كونه تقييمًا حقوقيًا إلى ما يشبه اللائحة الاتهامية ضد الدولة الجزائرية، مع تجاهل تام للسياق الأمني الذي تتحرك فيه البلاد، والضرورات السيادية التي تفرض أحيانًا تشريعات طارئة ومبنية على تجارب دولية مشابهة. فاتهامات كـ”المساس بالحق في المحاكمة العادلة” و”احتمال حصول اعتقالات تعسفية” و”تقييد حرية التنقل”، لم ترفق بأي دليل ملموس، بل استندت إلى قراءة سطحية ومجتزأة لنصوص القانون، دون أدنى محاولة لفهم خلفياته السياسية أو الأمنية.

الأكثر غرابة أن هذه المنظمات، التي تُقدّم نفسها كحامية للحقوق، تتجاهل تمامًا أن قوانين مشابهة – بل أشد صرامة – تُطبق منذ عقود في دول أوروبية تُصنّف ضمن أعرق الديمقراطيات، وعلى رأسها فرنسا، التي ينص قانون الدفاع فيها على صلاحيات استثنائية تمنح للحكومة والرئاسة سلطة التعبئة العامة الشاملة، بما يشمل تسخير الموارد، تقييد الحريات، والتحكم في وسائل الاتصال والمعلومات. ففي فرنسا، يمكن – وفق القانون – تعبئة المواطنين، الاستحواذ على ممتلكات خاصة، وتقييد الحركة داخليًا وخارجيًا، دون الرجوع إلى القضاء، وبصلاحيات تنفيذية مباشرة في حال إعلان “حالة الحرب” أو “التهديد الخارجي الخطير”. لماذا إذن تُدان الجزائر على خطوة مشابهة تُمارس بهدوء في باريس وبرلين ومدريد؟

منظمات كـFIDH وOMCT لم تُصدر يومًا بيانًا يندد بالقوانين الفرنسية الخاصة بحالة الطوارئ التي استمرت بعد هجمات باريس لعام 2015، ولم تستنكر تمديد تلك الحالة عامًا بعد عام، رغم تقييدها الصريح للحريات العامة والخاصة، بما في ذلك فرض الإقامة الجبرية دون حكم قضائي، ومداهمات ليلية بدون إذن قاضٍ، ومراقبة شاملة للمواطنين. ولم نسمع هذه المنظمات نفسها حين سنت فرنسا في 2021 قانون “الأمن الشامل”، الذي يجرم تصوير عناصر الأمن، ويعزز الرقابة بالفيديو في الفضاءات العامة، ويمنح البلديات والسلطات المحلية سلطات رقابية موسعة.

إن ردود الفعل هذه لا تكشف عن حرص على الحقوق، بل عن نزعة متجذرة في بعض الدوائر الحقوقية الغربية للتشكيك في كل ما يصدر عن الدولة الجزائرية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بتعزيز مؤسساتها الأمنية والتشريعية. إن استهداف قانون التعبئة العامة بهذا الشكل يُفهم فقط في سياق أوسع، سياق القلق من تحوّل الجزائر إلى دولة ذات قرار مستقل، غير خاضعة للضغوط الخارجية ولا مرتهنة لإملاءات مراكز النفوذ التقليدية.

ما يزيد من غموض نوايا تلك المنظمات هو تجاهلها التام للمضمون الفعلي للقانون، الذي لم ينص على إلغاء الحريات أو المساس بالمبادئ الدستورية، بل ينظّم شروط التعبئة الوطنية في حالات الضرورة القصوى، ويحدّد بدقة صلاحيات الدولة في هذا المجال، بما في ذلك استدعاء الأفراد أو تسخير الموارد، في ظروف استثنائية يقرها القانون والدستور. بل أكثر من ذلك، ينص القانون على أن هذه الصلاحيات لا تُمارَس إلا بموجب مرسوم رئاسي مصادق عليه، وتحت رقابة دستورية. فكيف تتحول خطوة بهذا القدر من القانونية والشفافية إلى “انزلاق سلطوي” في أعين هؤلاء؟

أما التعديلات المتعلقة بالإجراءات الجزائية، فربطها “بالخطر على المحاكمات العادلة” هو إسقاط غير مبرّر، خاصة وأن اعتماد تقنية المحاكمة عن بُعد (بالفيديو) موجود اليوم في دول أوروبية عديدة، بما فيها بلجيكا وهولندا، وهو معمول به منذ جائحة كورونا، بل وتم ترسيخه بعدها ضمن أنظمة التقاضي الحديثة. كذلك، فإن اتخاذ إجراءات مثل منع مغادرة التراب الوطني في سياق تحقيق قضائي هو إجراء تحفّظي ومؤقت، يخضع لمراقبة النيابة ويمكن الطعن فيه، كما هو الحال في العديد من الدول التي تتبع نفس المنهج القضائي.

إن هذه الحملة على قانون التعبئة ليست سوى محاولة سياسية مغلفة بثوب حقوقي، هدفها التشويش على مشروع سيادي يُعيد للدولة الجزائرية قدرتها على التنظيم والحماية والجاهزية، في عالم لم يعد يعترف إلا بالأقوياء. الجزائر اليوم تُشرّع وفق احتياجاتها الوطنية، لا وفق تقارير معدّة سلفًا، ولا تحت ضغط المؤسسات التي اعتادت ممارسة الوصاية المقنعة على الدول النامية. ومن يخشى الجزائر القوية، فمشكلته ليست في قانون التعبئة… بل في فشله في التكيّف مع عالم تتغير فيه موازين القوة.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

الزليج الجزائري يتوج في معرض “إكسبو 2025 أوساكا” باليابان

تألقت الجزائر مجددًا على الساحة الدولية من خلال تتويجها بالميدالية الفضية لأفضل تصميم خارج…