كرّم عمال الغربة من قلب بلجيكا.. البرلمان الجزائري يبعث الحياة في ذاكرة المناجم…
بالتصفيقات الحارة للجمهور الحاضر، أُسدل الستار على فعاليات الذكرى الـ116 لعمال المناجم الجزائريين في أوروبا، من خلال عرض فيلم وثائقي للمخرج حمزة مهدي، سلط الضوء على تاريخ الجزائريين الذين غامروا بحياتهم في الخارج بحثًا عن لقمة العيش، ثم انخرطوا لاحقًا في مسار التحرير الوطني، مساهمين في تأسيس التنظيمات والحركات والأحزاب خلال فترة ما قبل اندلاع الثورة، وممهدين لتشكيل جبهة التحرير الوطني وانتشار فكرة الاستقلال في أوساط المهاجرين، وعلى وجه الخصوص بين عمال المناجم.
الفيلم الذي أخرجه حمزة مهدي، وثّق شهادات تاريخية لمسار الحركة الوطنية وحرب التحرير، من خلال أقوال شخصيات شاركت في تلك المراحل، مثل المجاهد علي هارون، العقيد عمر بوداود، والمؤرخ بن يمين سطوره، إلى جانب الباحث الفرنسي جون روني جانتي، والمؤرخ المجاهد محمد حربي، الذي عاش تجربة الثورة كمسؤول في فدرالية جبهة التحرير بفرنسا، ثم واصل التوثيق لها ككاتب وصحفي ومؤرخ، وكان من بين الشخصيات التي أسهمت في الحفاظ على ذاكرة الثورة وتاريخ الشعب الجزائري.
الفيلم كان مؤثرًا بشكل خاص لدى الجمهور الذي تكوّن أساسًا من أبناء وأحفاد عمال المناجم الجزائريين المقيمين في جنوب بلجيكا وشمال فرنسا. وقدّم هؤلاء شهادات مؤثرة حول الظروف الاجتماعية الصعبة التي عاشها آباؤهم، ونقلوا للأجيال الجديدة صورة واضحة عن واقع السياسة الاستعمارية الفرنسية، والتي لم تكن ترى في الجزائريين سوى أرقام تُستدعى عند الحاجة، خصوصًا لتجنيدهم في الجيوش الفرنسية كما عكستها إحدى الشهادات التي وردت في الفيلم.
كما تناول الفيلم البدايات التنظيمية الأولى للحركة الوطنية الجزائرية، مشيرًا إلى دور نقابة “سي جي تي” والعلاقة التي جمعت المناضل عبد القادر حاج علي، أحد أعضائها البارزين، بمصالي الحاج، وما نتج عن هذا التلاقي من تأسيس لنجم شمال إفريقيا، الذي شكّل اللبنة الأولى لتأطير الجالية الجزائرية في أوروبا سياسيًا، تمهيدًا لظهور تنظيمات أكثر تطورًا قادت في نهاية المطاف إلى الاستقلال.
وتمّ التطرق في الفيلم إلى الخلفية العمالية اليسارية للحركة الوطنية، حيث شكّلت الطبقة العاملة، خاصة في المناجم والموانئ والمعامل، القاعدة الأساسية للفعل الثوري. وأظهر الفيلم كيف لعب هؤلاء العمال دورًا محوريًا في تمويل الثورة التحريرية، ودعمها بالموارد البشرية واللوجستية، إضافة إلى إسهامهم في إيصال صوت الجزائر إلى المنابر النقابية والسياسية في أوروبا.
من خلال ساعة واحدة من العرض، اختزل الوثائقي تعقيدات المسار الثوري، وأبرز تفرعاته الفكرية والتنظيمية، وتوقف عند الصراعات التي شهدتها الحركة الوطنية قبل اندلاع الثورة المسلحة، والتي تركت بصماتها على مسار حرب التحرير، بل وتواصلت آثارها إلى ما بعد الاستقلال. كما أظهرت الشهادات التي وردت في الفيلم مدى تعلق الجيل الأول من المهاجرين بحلم الاستقلال، واستعدادهم للتضحية في سبيله، على الرغم من الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية.
الحدث عرف مشاركة رسمية جزائرية بارزة تمثلت في حضور نائبي رئيس المجلس الشعبي الوطني، السيد إبراهيم بوغالي، رفقة عدد من النواب، حيث شاركوا الجالية الجزائرية المقيمة في أوروبا هذه الذكرى التاريخية، وساهموا في تعزيز أجواء الاعتراف والوفاء لذاكرة النضال. وقد أضفى هذا الحضور طابعًا رسميًا على المناسبة، وعكس حرص الدولة الجزائرية على الاهتمام بتاريخها الوطني المرتبط بالمهاجرين.
شكّل حضور نائبي رئيس المجلس الشعبي الوطني، رفقة نواب من البرلمان، دعمًا رمزيًا مهمًا لهذا الحدث الذي استقطب جزائريين من مختلف أنحاء أوروبا لحضور الفيلم والمشاركة في إحياء الذكرى. وقد منح هذا الحضور الرسمي الطابع المؤسساتي للمناسبة، وأكد اهتمام السلطات العليا بتاريخ الجالية الجزائرية ونضالها الوطني. في المقابل، تعكس بعض الممارسات المحلية المقلقة غياب هذا الوعي، حيث تستمر فئات بيروقراطية في تقديم المصالح الشخصية على المصلحة الوطنية، وهو ما يُنذر بانعكاسات سلبية على مستقبل البلاد. وتبرز في هذا السياق مواقف مؤسفة سُجلت سابقًا، حين لجأ بعض المسؤولين إلى التشكيك في رموز الثورة الوطنية بدوافع شخصية، وهو ما يمس بقداسة الذاكرة الجماعية وبقيم الدولة التي تأسست على تضحيات الشهداء.
كما قام ممثلو البرلمان الجزائري بتقديم هدايا رمزية باسم رئيس المجلس الشعبي الوطني إلى عدد من أصدقاء الثورة الجزائرية من الأجانب، إضافة إلى أبناء وأحفاد المجاهدين الجزائريين، في التفاتة حملت الكثير من الرمزية، وأكدت على أهمية الاعتراف بالدور المحوري الذي لعبته الجالية الجزائرية في أوروبا، خاصة عمال المناجم، في مسار التحرر الوطني.
وتبقى هذه المناسبات فرصة لتجديد الارتباط بين الوطن وأبنائه في الخارج، وفضاءً لاستعادة الذاكرة الوطنية بعيدًا عن القراءات الضيقة والمصالح الشخصية. كما تتيح للأجيال الجديدة اكتشاف صفحات مشرقة من تاريخ بلدهم، واستيعاب السياقات التي رافقت ميلاد الدولة الوطنية، بما تحمله من تضحيات وتحديات وصراعات داخلية وخارجية.
تسليط الضوء على هذا الجزء من الذاكرة الوطنية يُعد خطوة مهمة في مسار الاعتراف بتضحيات فئة لا تزال في كثير من الأحيان تُغيّب من السرد الرسمي، رغم أنها كانت في قلب المعركة، تدفع الثمن مضاعفًا، وتؤدي واجبها بصمت في المنافي والأنفاق والمعامل.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…