‫الرئيسية‬ الأولى لوفيغارو… حين يصبح التزوير منهجًا
الأولى - الحدث - الوطني - رأي - مقالات - ‫‫‫‏‫3 أيام مضت‬

لوفيغارو… حين يصبح التزوير منهجًا

لوفيغارو… حين يصبح التزوير منهجًا
عاد الخطاب الاستعماري الفرنسي إلى الواجهة من جديد، عبر مقالات تحاول قلب الحقائق التاريخية وتقديم الجزائر في صورة الجلّاد، في محاولة بائسة للهروب من استحقاق مواجهة تاريخ دامٍ صنعته فرنسا الحديثة بكل مؤسساتها وإدارتها وقوانينها منذ 1830. المقال الذي نشرته “لوفيغارو” الفرنسية ليس سوى امتداد لحنين إمبراطوري قديم، يرفض الاعتراف بأن الجزائر لم تكن يومًا دولة استعمارية ولا قوة متحكمة في مصائر الشعوب، وأن منطقة المغرب الأوسط عاشت، مثل باقي المتوسط، تحولات إمبراطورية متعاقبة لا يمكن إسقاط معايير الدولة الحديثة عليها.

إنّ استدعاء وقائع تعود لقرون، حدثت في إطار نظام عالمي كانت فيه الحروب البحرية والأسرى والمبادلات أمورًا تمارسها كل القوى المتوسطية دون استثناء، يكشف عجز الخطاب الفرنسي عن مواجهة الحقيقة الجوهرية، فرنسا الجمهورية، دولة قائمة ومستمرة ومؤسساتية، هي الطرف الوحيد الذي يتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية عن 132 سنة من الاستعمار، الذي لم يكن مجرّد وجود عابر، بل مشروع استيطاني متكامل استهدف الأرض والإنسان والهوية، ورافقته حملات إبادة وتهجير ونهب لم تعرفه الجزائر عبر تاريخها الطويل.

والمفارقة الأكثر فجاجة، أنّ من يطالب اليوم بـ«تعويضات» عن أحداث تعود إلى عالم سياسي منقرض، هو نفسه من يرفض الاعتراف بفظائع موثقة ارتُكبت بأوامر رسمية من دولة حديثة تمتلك أرشيفًا وإدارة وقوانين وجيشًا. الهروب إلى الماضي السحيق ليس سوى محاولة لتخفيف العبء الأخلاقي الملقى على عاتق دولة ما زالت عاجزة عن مواجهة تاريخها الاستعماري بشكل شجاع.

والخلط المتعمّد بين الكيانات التاريخية والإمبراطورية العثمانية والوجود المحلي في الجزائر قبل 1830 هو لعبة خطابية مكشوفة الهدف منها اختلاق «ندّ» استعمارية للجزائر، لتبرير تقليل حجم الجرائم الاستعمارية الفرنسية. الجزائر قبل الاستعمار لم تكن دولة قومية بالمعنى الحديث كي تتحمل مسؤولية سياسية أو قانونية، بل كانت مثل غيرها من مناطق المتوسط جزءًا من منظومات سياسية متغيرة يتعامل فيها الجميع بمنطق القوة البحرية. وإذا كانت هذه القراءة الانتقائية تريد محاكمة التاريخ، فلتبدأ أولًا بأوروبا التي مارست قرونًا من الرقّ والحروب الدينية والاستعمار البحري في المتوسط والأطلسي معًا.

أما القول إنّ الجزائر «نسيت» مشاركتها في تجارة العبيد، فهو قلب صريح للواقع، لأن تجارة الرق في العصر العثماني كانت ظاهرة عالمية تشترك فيها قوى البحر المتوسط كافة، من نابولي إلى مالطا إلى مرسيليا، حيث كانت أسواق الأسرى الأوروبيين مفتوحة، وكانت أوروبا نفسها تمارس الظاهرة على نطاق أوسع بكثير في مستعمراتها. ومن السذاجة الأخلاقية اقتطاع جزء من التاريخ وتجاهل باقيه لإنتاج خطاب أحادي يتهم الآخرين بما مارسه الأوروبيون على نطاق كوكبي.

إنّ فرنسا، دولة ما بعد الثورة والحقوق والحريات، هي التي حاصرت الجزائر، دمّرت قراها، أقامت نظامًا استيطانيًا منهجيًا، صادرت الأراضي، ونفّذت حملات قتل جماعي موثقة، ولم تزل آثارها قائمة في الذاكرة وفي الجغرافيا. هذا تاريخ قريب، حديث، صادر عن دولة قائمة لا جدال في هويتها ولا مؤسساتها ولا مسؤولياتها. وهو ما يجعل مقارنة الاستعمار الفرنسي بأي مرحلة أخرى مجرد هروب سياسي يفتقر لأدنى أسس العلمية والنزاهة.

الجزائر لا تحمل عقدة الماضي، لكنها ترفض طمس الحقائق أو السماح للخطاب الاستعماري أن يعيد إنتاج نفسه تحت غطاء أكاديمي. وما يجب أن يُقال بوضوح هو أنّ من يرفض الاعتراف بجرائمه لا يملك حق تقديم دروس أخلاقية للآخرين. فالذاكرة التاريخية ليست لعبة سياسية، ولا مجالًا للمقايضة، ولا وسيلة لتبرئة استعمار كان مشروعًا رسميًا لدولة حديثة بكل معنى الكلمة.

وبينما تتجه الأمم الحرة إلى المصارحة والمصالحة الحقيقية، يختار بعض الخطاب الفرنسي العودة إلى السرديات البدائية التي تحوّل الجلّاد إلى ضحية والضحية إلى جلّاد. هذه ليست كتابة تاريخ، بل صناعة أساطير مريحة للضمير الاستعماري المثقل بفشل الاعتراف.

وليس من المتوقع أن يثمر هذا الخطاب سوى المزيد من التوتر الأخلاقي داخل فرنسا نفسها، لأنها كلما تهرّبت من الحقيقة، واجهتها تناقضاتها بحدة أكبر. أما الجزائر، فتبقى ثابتة على موقفها: الذاكرة مسؤولية، والتاريخ يُكتب كما حدث، لا كما يراد له أن يبدو.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القصة الكاملة لمنع نشاط حركة “الماك” الإرهابية بفرنسا

لم يكن منع النشاط الذي كانت تعتزم حركة ما يُسمّى بـ«تقرير مصير القبائل» تنظيمه يوم 14 ديسم…