ماذا قال الرئيس تبون للصحافة اللبنانية؟
جاء اللقاء الذي جمع رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بوفد من الصحفيين اللبنانيين، على هامش زيارة الرئيس اللبناني جوزيف عون إلى الجزائر، في توقيت دقيق تتقاطع فيه التحديات الإقليمية مع التحولات الجيوسياسية العالمية. هذا الحوار لم يكن مجرد مناسبة بروتوكولية، بل تحوّل إلى منصة كشف فيها الرئيس الجزائري عن مواقف بلاده بصراحة وهدوء، مجدداً التأكيد على الثوابت التي تحكم السياسة الخارجية الجزائرية، المبنية على الاستقلالية والاحترام المتبادل ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
استهل الرئيس عبد المجيد تبون حديثه بالتشديد على عمق ومتانة العلاقات التي تجمع الجزائر بلبنان، مؤكدًا أنها تتجاوز البعد الرسمي لتشمل روابط شعبية وتاريخية راسخة. وأعرب عن اهتمام الجزائر الكبير بما يمر به لبنان من أزمات اقتصادية ومؤسساتية معقّدة، مبرزًا استعداد بلاده لتقديم دعم غير مشروط في هذا الظرف الحرج. كما شدد على أن الجزائر ترفض منطق المقايضة السياسية، وتحرص على عدم فرض أي أجندات على الطرف اللبناني، في تميّز واضح عن بعض الدول التي تربط مساعداتها بقضايا داخلية حساسة.
هذا الخطاب السيادي امتد أيضاً إلى الملف السوري، حيث عبّر الرئيس عن قناعته بأن سوريا، رغم سنوات الحرب، ما تزال قادرة على استعادة وحدتها الوطنية، لكن ذلك يتطلب وقتاً واستقلالية في القرار. لم يصدر تبون حكماً بشأن مساعي التطبيع بين دمشق وتل أبيب، بل ترك الباب مفتوحاً أمام خيارات الشعوب، قائلاً إن كل قائد يجب أن يستجيب لإرادة شعبه، وليس للضغوط الخارجية. هذا الموقف ينمّ عن فهم عميق لتعقيدات الشرق الأوسط، ويؤكد أن الجزائر تتعامل مع تلك القضايا بمعيار السيادة أولاً.
أما بالنسبة للقضية الفلسطينية، فقد أعاد الرئيس التأكيد على أن الجزائر لم تغيّر موقفها ولن تساير موجة التطبيع التي تشهدها المنطقة. وصرّح بوضوح أن بلاده لن تقيم أي علاقات مع إسرائيل قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية. وامتدح الدور السعودي في دعم الوحدة الفلسطينية، مشيراً إلى أن الجزائر والسعودية تربطهما علاقات وثيقة وتاريخية، تعزّزت أكثر في ظل الظروف الإقليمية الراهنة، خاصة في ظل تقاطع المواقف تجاه قضايا مركزية مثل فلسطين واليمن وليبيا.
وحين سُئل الرئيس تبون عن علاقة الجزائر بالقوى الكبرى، أبرز استراتيجية بلاده في الحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها الدولية، رافضاً الانخراط في أي محور سياسي أو عسكري. وأكد أن الجزائر تحتفظ بعلاقات متينة مع الولايات المتحدة، الصين، وروسيا، مشيراً إلى أن هذه العلاقات مبنية على الندية والاحترام، وليست خاضعة لمنطق التبعية أو التنازل. وذكّر بدور الولايات المتحدة في دعم القضية الجزائرية خلال حرب التحرير، لكنه شدد على أن بلاده لا تقبل أن تُستعمل كورقة في صراعات بين الكبار، مضيفاً أن الجزائر أبلغت الأمريكيين بوضوح أن لا أحد يستطيع دفعها إلى العداء مع طرف آخر.
في الشأن الفرنسي، لم يُخفِ الرئيس وجود خلافات عالقة، خاصة ما يتعلق بالذاكرة الاستعمارية، وهو الملف الذي لا يزال يشكل نقطة توتر في العلاقات بين الجزائر وباريس. ومع ذلك، نفى أن تكون هناك قطيعة شخصية مع الرئيس إيمانويل ماكرون، مشيراً إلى أن المشكلة الحقيقية تكمن في “أقلية متطرفة داخل فرنسا جعلت من الجزائر هاجسها الأول”. وأوضح أن الجزائر لن تفرّط في ذاكرتها الوطنية، لكنها في الوقت ذاته منفتحة على علاقات متوازنة مع شركاء أوروبيين آخرين، مستشهداً بإيطاليا كمثال على التعاون الإيجابي بعيداً عن الأحكام المسبقة والتجاذبات الإيديولوجية.
كان حوار الرئيس تبون مع الصحافة اللبنانية مناسبة لكشف رؤية متكاملة لجزائر ترفض الاصطفاف الأعمى، وتتمسك بدورها كقوة دبلوماسية عاقلة في محيطها العربي والمتوسطي. رؤية توازن بين المبادئ والبراغماتية، لا تساوم في السيادة، ولا تنجرّ إلى ردود فعل انفعالية، بل تؤمن أن القوة الحقيقية تكمن في احترام الذات وفي احترام الآخر في آن واحد.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!
تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…