محمد مزيان… حين يُقوِّم الوزير اعوجاج الخطاب السياسي الاسلاموي
برز جدل كبير أعقب مداخلة النائب عبد السلام بشاغا داخل قبة البرلمان، وهي المداخلة التي لم تكن لتأخذ كل هذا الزخم لولا ما تبعها من بيان استنكاري صادر عن المجموعة البرلمانية لحركة مجتمع السلم، تهاجم فيه وزير الاتصال السيد محمد مزيان وتصف ردّه بأنه تعدٍ على نائب في مؤسسة دستورية. غير أن التدقيق في سياق الأحداث وتحليل ما جرى بموضوعية، يكشف أن الوزير لم يكن بصدد الرد على شخص النائب بقدر ما كان بصدد الدفاع عن منطق الدولة ومبدأ احترام المؤسسات، وهو ما يجعل موقفه جديراً بالتقدير لا بالهجوم.
لقد جاء رد الوزير ضمن صلاحياته ومسؤولياته، لا سيما وأن النائب المذكور كان قد خلط بين تقرير إعلامي بث يوم 2 ماي وبيان قضائي صدر يوم 3 ماي، وراح يوجه اتهامات مبطّنة تحمل في طياتها تشكيكاً ضمنياً في نوايا المؤسسات الإعلامية، بل وتمسّ بطريقة غير مباشرة نزاهة العدالة الجزائرية. من هنا، فإن تدخل الوزير كان ضرورياً لتصحيح المغالطات وحماية سمعة التلفزيون العمومي من التأويل السياسي الذي لا يخدم إلا مزيداً من التوتر بين السلطات والمؤسسات، وهي مسؤولية اتصالية جوهرية تقع على عاتقه.
الوزير مزيان لم يلجأ في رده إلى لغة الإساءة أو التهجم، بل استعمل لغة دقيقة وواضحة تنم عن وعي بدوره كعضو في الحكومة ومسؤول عن قطاع حساس يفرض عليه التوازن والانضباط. ما عبّر عنه هو موقف مؤسسة وليس فرداً، وقد اختار التوضيح الهادئ والرد بالحجة، بعيداً عن الشخصنة التي تحاول بعض الأطراف تحميله إياها. ومن المؤسف أن يُفهم هذا الموقف الواعي والموزون على أنه تعدٍ على النائب، في حين أنه ممارسة طبيعية ضمن سيرورة العمل المؤسساتي، لا سيما في ظل التوجيهات الرئاسية الأخيرة التي تدعو إلى ترشيد الخطاب الرسمي وتفادي “الفولكلور الإعلامي” والانفعالات غير المحسوبة.
ولعل ما يلفت الانتباه أن النائب الذي قدّم نفسه كمدافع عن حرية التعبير والرقابة البرلمانية، لم يُبدِ ذات الحماسة حين تعلق الأمر بإثبات التزامه الكامل بمضامين الدستور، لا سيما ما يتعلق بالهوية الوطنية الجامعة التي تضم الأمازيغية كمكون أصيل ومعترف به دستورياً. هذه النقطة الجوهرية تستدعي وقفة، لأنها تكشف تناقضاً في الخطاب وتوظيفاً انتقائياً للمفاهيم الدستورية بحسب الظرف والمصلحة، وهو ما يعزز موقف الوزير الذي لم يغفل الإشارة إلى أهمية احترام ثوابت الجمهورية والتوقف عن التلاعب بها في الخطابات السياسية.
إن الدفاع عن القضاء لم يكن من باب المجاملة أو التستر، بل من منطلق حماية لمبدأ سيادة القانون الذي لا يقبل الخوض في قضايا لا تزال في طور التحقيق، خاصة عندما يكون الخوض فيها من منبر رسمي قد يُفهم منه ضغط أو تأثير. الوزير هنا مارس مسؤولية وطنية بامتياز، ووضع النقاش في حجمه الصحيح، حين فرّق بين حرية التعبير والاستغلال السياسي للمعلومة، وهو ما يجب أن يكون سلوكاً عاماً في التعامل مع القضايا ذات الطابع الحساس، لا استثناء فردياً يُهاجَم بسبب انضباطه.
إننا حين نقرأ بيان المجموعة البرلمانية لحركة مجتمع السلم، نجد أنفسنا أمام محاولة لتوسيع دائرة الخلاف وتحويله إلى صراع مفتعل بين السلطة التنفيذية والتشريعية، في حين أن ما جرى لا يتعدى كونه تصويباً لخطأ في الوقائع ورداً مهنياً على خطاب غير دقيق. المفروض في مثل هذه الحالات أن يكون هناك تفاعل عقلاني ومسؤول، لا تضخيم لمواقف تُخرِج النقاش عن مساره وتُحوّله إلى استقطاب عقيم.
لقد برهن وزير الاتصال محمد مزيان في هذا الموقف على أنه وزير دولة بحق، يمتلك من النضج السياسي والمهني ما يؤهله للوقوف بثقة أمام أي محاولة تشويش أو تهويل. لم يتراجع، ولم يخشَ الجدل، بل واجهه بحكمة ورباطة جأش، مقدّماً صورة الوزير الذي يحترم المؤسسات ويُدافع عنها في إطار القانون، ويترجم فعلاً توجيهات رئيس الجمهورية الذي دعا صراحة إلى الارتقاء بالخطاب السياسي الرسمي.
إن الجزائر اليوم بحاجة إلى مثل هذا النموذج من المسؤولين، ممن يضبطون خطابهم، يتقنون لغة الدولة، ويفهمون جيداً أن المسؤولية لا تعني الصمت بل تعني الكلام عندما يتطلب الموقف قول الحقيقة، بكل ما فيها من حرج أو جدل. ولذلك فإن مَن يجب أن يُراجع نفسه في هذه الحادثة ليس الوزير، بل كل من اعتبر الرد على الخطأ هجوماً، وتصويب الوقائع تعدياً. فالدولة لا تُبنى بالمجاملات، بل تُبنى بالمواقف المسؤولة.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …