معركة أخيرة من أجل النفس الأخير… القصة المأساوية لشعبان تبول في فرنسا
تحوّلت قضية الجزائري شعبان تبول، البالغ من العمر 64 عاماً، طوال الأشهر الماضية، إلى واحدة من أكثر الملفات الطبية–القضائية إثارة للجدل في فرنسا، بعدما وجد نفسه في قلب معركة ثلاثية الأبعاد، بين الأطباء الذين اعتبروا أن حالته ميؤوس منها وأن الإبقاء على الأجهزة شكلٌ من أشكال «الإصرار العلاجي غير العقلاني»، وبين عائلته التي تمسكت بحقّه في الحياة وبأن والدهم لا يزال يبدي ما تعتبره «إشارات وعي»، وبين منظومة قانونية معقدة تُحاول الموازنة بين احترام إرادة المريض وحدود الطب والأخلاقيات الطبية. كان شعبان يعالج من سرطان في الحنجرة، ودخل في غيبوبة عميقة منذ منتصف شهر أوت الماضي، ليصبح فيما بعد محور صراع لا يتعلق فقط بحياته، بل أيضاً بمفهوم «الكرامة»، و«الإلحاح العلاجي»، والحدود الدقيقة لقرارات الأطباء في فرنسا.
وتعود البداية إلى 28 أوت، حين أبلغت وحدة الإنعاش في معهد غوستاف روسّي العائلة بقرار إنهاء العلاج يوم 3 سبتمبر، واعتماد «سُبات طبي عميق ومتواصل إلى غاية الوفاة»، مستندة إلى قانون «كلايس–ليونتي» الذي يسمح للأطباء بوقف العلاجات التي لا تهدف إلا إلى إطالة الحياة بشكل اصطناعي. وصُدمت العائلة بهذا القرار، إذ كانت ترى أن المريض لا يزال يحرك أصابعه بين الحين والآخر ويُظهر ما تعتبره «استجابة تلقائية»، وهو ما اعتقدت أنه مؤشر على أن الأمل لم ينتهِ بعد. تقول ابنته هنية، التي قادت المعركة باسم العائلة، إنه كان من المفترض أن يرافقهم المستشفى في هذه اللحظات الصعبة، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام قرار «نهائي وجاهز» دون نقاش حقيقي، وهو ما جعلها تشعر بأن والدها حُكم عليه بالموت مسبقاً.
وسرعان ما انتقلت القضية إلى القضاء حين رفعت هنية دعوى مستعجلة أمام المحكمة الإدارية في ملان يوم 29 أوت، تطلب فيها وقف قرار الأطباء. وبعد يوم واحد فقط، كلّفت المحكمة خبيراً طبياً بفحص المريض لتحديد وضعه العصبي بدقة. وجاءت نتائج الخبرة يوم 30 سبتمبر في صالح العائلة، حين أكد الخبير أن شعبان تبول لا يوجد في «حالة وفاة دماغية» كما كان يخشى البعض، بل إنه في «حالة وعي ضئيل»، وهي حالة تختلف جذرياً عن الغيبوبة النهائية، وتعتبر في القانون الطبي الفرنسي سبباً قوياً يمنع اللجوء إلى «النهاية السريرية». وقد منح هذا القرار العائلة شعوراً بأنهم لم يكونوا يتحركون من منطلق عاطفة عمياء، بل من منطلق إنساني وطبي في آن واحد.
إلا أنّ معهد غوستاف روسّي لم يتراجع، وقرّر الطعن في حكم المحكمة أمام مجلس الدولة، وهو الهيئة القضائية الإدارية العليا في فرنسا، مقدّماً خبرة طبية جديدة أنجزها طبيب خارجي اعتبر أن المريض في «غيبوبة عميقة ولا رجعة فيها»، نافياً وجود أي مؤشر على وعي أو إدراك. ولأن مجلس الدولة يملك صلاحية تقدير الوضع الطبي من خلال تقارير متعددة، فقد قرر يوم 3 نوفمبر قبول الطعن الذي تقدّم به المعهد، واعتبر أنّ قرار وقف العلاج مبرَّر قانونياً ويقع ضمن الإطار المسموح به. وبهذا الحكم، سقطت آخر ورقة حماية قضائية كانت العائلة تتشبّث بها.
وبين هذين القرارين، تروي الابنة هنية وقائع مريرة عاشتها داخل المستشفى، إذ تقول إنها حاولت تجنّب اللجوء إلى القضاء أصلاً، واتصلت بالوسيط الطبي يوم 27 أوت أملاً في إيجاد حلّ إنساني عبر الحوار، لكنها فوجئت بأن الوسيط أحالها إلى الطاقم الطبي نفسه الذي اتخذ القرار. وعقب صدور حكم مجلس الدولة، تقول إن الوسيط وجّه لها عبارات جارحة، واصفاً إياها بـ«غير العقلانية» و«المضرة بوالدها»، قبل أن تتدخل إدارة المستشفى لاحقاً لتقديم اعتذار رسمي، وفق ما أكدته محامية العائلة. وتوضح الابنة أن رئيس لجنة الأخلاقيات داخل المؤسسة بدا أكثر تفهّماً، لكنه بقي متمسكاً بأن وقف العلاج يُعدّ احتراماً لـ«كرامة» المريض، وهو تفسير ترفضه العائلة التي ترى أن الكرامة الحقيقية تكمن في احترام رغبة شعبان المكتوبة بوضوح يوم 2 جويلية، حين قال إنه يريد «أن يُبذل كل ما يمكن من أجل علاجه وإطالة حياته»، وأنه يرفض «الموت بحقنة مهدّئة».
ومع استمرار الجدل حول حالة وعيه، بين من يصفها بأنها «وعي ضئيل» ومن يرى أنها «غيبوبة نهائية»، قررت العائلة البحث عن مؤسسة استشفائية تقبل إجراء فحوص جديدة أو استقبال المريض. لكن معهد غوستاف روسّي وضع مهلة قصيرة للغاية لنقله، مشترطاً العثور على مكان قبل منتصف ليلة الثلاثاء 11 نوفمبر. وقد واجهت العائلة صعوبات هائلة في إيجاد مستشفى داخل فرنسا يقبل مريضاً تحت التنفس الاصطناعي، كما تعذّر نقلُه إلى دول أوروبية أخرى لغياب صور أشعة حديثة. وفي النهاية لم تجد العائلة خياراً سوى نقل شعبان تبول إلى الجزائر، رغم تعقيدات النقل الطبي الجوي.
وبمجرد وصوله إلى الجزائر، وإن كان ذلك بطعم انتصار معنوي متأخر، فارق شعبان تبول الحياة بعد أيام قليلة من خروجه من معهد غوستاف روسّي، لتنتهي بذلك قصة إنسانية معقّدة حُملت فيها الأبعاد الطبية والأخلاقية والقضائية على حدّ سواء. وبموته، تبقى الأسئلة مفتوحة داخل فرنسا: من يملك حق القرار النهائي في نهاية الحياة؟ هل يجب أن تكون كلمة الطبيب فوق كلمة العائلة؟ وهل تُحترم دائماً وصايا المرضى المكتوبة؟ وهل قانون 2016 قادر فعلاً على التعامل مع حالات إنسانية بهذه الحساسية، حيث يتداخل الألم الإنساني مع الحدود العلمية للطب؟
قضية شعبان تبول لن تُغلق بسهولة، لأنها تجاوزت حدود عائلة واحدة ومستشفى واحد، لتصبح جزءاً من النقاش الفرنسي الدائم حول حدود التدخل الطبي، وشرعية قرارات إنهاء العلاج، وتعريف «الكرامة» حين يكون الإنسان عاجزاً عن الدفاع عن نفسه.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر تحذّر في مجلس الأمن.. تجفيف التمويل هو مفتاح هزيمة الإرهاب
قدّمت الجزائر عبر ممثلها الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير عمار بن جامع، رؤية دقيقة ومفصلة …







