ممداني… نجاح لا يصنعه الخطاب الديني
رغم محاولة التيار الإخوانجي في الجزائر—وهو بلا مبالغة من أكثر التيارات تخلّفًا في العالم—تقديم مبرر تافه كعادته لانتصار زهران ممداني رئيس بلدية نيويورك، مدّعين أن نجاحه يعود فقط لكونه تحدّث بالعربية وكأنه نطق بالوحي أو كأنّ الأمريكيين يفهمون العربية أصلاً، فإن الحقيقة تختلف تمامًا.
فالتصويت الذي حصل عليه العمدة المسلم جاء أساسًا بفضل العنصر النسوي في المدينة، إذ تشكّل النساء أغلبية معتبرة في نيويورك وتفوق نسبتهنّ الرجال بفارق كبير. وما جذبهنّ للتصويت لصالحه لم يكن لغته ولا خطابه “الهوياتي”، بل الدور المهم الذي لعبته زوجته، التي رافقته ودعمته ونشطت إلى جانبه طوال الحملة الانتخابية، ولم تكن ملتزمة بلباس الإخوان الذي بات يعصف بجاليات عربية وإسلامية ويحوّل شعر المرأة إلى “عورة” وفق فهمهم المنغلق.
كما أنّ العمدة المنتخب نال نسبة معتبرة من أصوات اليهود، رغم أن مواقفه من الصهيونية ومن الكيان الصهيوني واضحة وصريحة إلى حدّ العداء، ووعد حتى باعتقال نتنياهو إن وطئت قدماه نيويورك ومحاكمته على جرائمه. هذه المفارقة بالذات تحتاج إلى تحليل خاص، لأن دلالاتها كبيرة ومعانيها أعمق مما يبدو. فالاعتقاد بأن “كل اليهود” أنصار لـ“أيباك” هو خطأ كبير يرتكبه العرب والمسلمون. وقد تذكرت في هذا السياق ما قاله لي محامٍ يهودي من نيويورك التقيت به في بروكسل، حين أوضح أن تضخيم قوة اللوبي اليهودي هو سوء فهم منتشر، وأن هناك اليوم تنظيمات يهودية جديدة، على غرار حركة “الشارع اليهودي” التي تأسست في نيويورك، تختلف جذريًا عن أيباك وترفض دعم الكيان الصهيوني ولا ترى نفسها ممثلة في سياساته.
إلى جانب ذلك، حظي ممداني بأصوات أقليات أخرى من أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، من ديانات وأعراق متنوّعة، تعلّمت في أميركا أن الاختيار يكون للأصلح وليس للمنتمي إلى ديانة معيّنة. ورغم كونه مسلمًا، إلا أنه—وزوجته—لا يمثلان أيًّا من تيارات “الأسلمة السياسية”، بل يظهران كأي عائلة مسلمة طبيعية تعيش في المهجر، بعيدًا عن الإيديولوجيا والرمزية الدينية الثقيلة التي يحاول الإخوان إلصاقها بأي نجاح خارجي يخص مسلمًا، وكأن انتصاره انتصار لهم، وهو في الحقيقة هزيمة إضافية لخطابهم.
العمدة الجديد جمع حوله نساء نيويورك بفضل الدور الذكي الذي لعبته زوجته، واستقطب جزءًا من أصوات يهود المدينة ومسيحييها وعلمانييها، إضافة إلى أصوات شتى الأعراق والتيارات السياسية، لأنه قدّم نفسه كمرشح قادر على تحقيق أحلامهم والدفاع عن حقوقهم. كما أنّ انتخابه، وهو ديمقراطي، جاء في سياق تراجع شعبية الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، وازدياد الانتقادات لسياساته، وخاصة ما يتعلق بـ“كراهية الأجانب” ومحاولات طرد المهاجرين من الولايات المتحدة، إلى الحدّ الذي بات فيه المزارعون لا يجدون عمّالاً لجني محاصيلهم، وبعض المصانع تعطّلت فعلًا بسبب فقدان المهندسين والعمّال الآسيويين المطرودين أو الملاحَقين.
ويمكن القول إنّ اختيار عمدة مسلم لمدينة كبرى مثل نيويورك هو في حدّ ذاته صفعة سياسية موجهة لترامب ولخطابه الإقصائي، أكثر من كونه انتصارًا دينيًا أو هوياتيًا. إنه انتصار لأميركا التنوّع، لا لأميركا الشعبوية.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
تصويت الجزائر في مجلس الأمن… منطق الدولة ينتصر
تعالت أصواتٌ عديدة تندّد بتصويت الجزائر لصالح المشروع الأميركي المتعلق بغزة، معتبرة أنّ ال…







