من باريس إلى بروكسل… الجزائر في مرمى التصنيفات المسيسة!
تعود الجزائر إلى واجهة التصنيفات المالية الغربية، هذه المرّة تحت عنوان “الدول عالية المخاطر في مجال تبييض الأموال”، كما ورد في بيان رسمي صادر عن المفوضية الأوروبية بتاريخ 10 جوان 2025. وبينما يوحي ظاهر القرار بأنه إجراء تقني يستند إلى مؤشرات وتوصيات صادرة عن مجموعة العمل المالي الدولية (GAFI)، فإن توقيته، مضمونه، والسياق المحيط به، تفرض قراءة أعمق لا تخلو من أبعاد سياسية واضحة.
فمنذ إدراج الجزائر في أكتوبر الماضي ضمن “اللائحة الرمادية” لمجموعة “غافي”، لم تدّخر السلطات الجزائرية أي جهد للامتثال للتوصيات الدولية؛ بدءًا من إطلاق استراتيجية وطنية لمكافحة تبييض الأموال، وصولًا إلى إدراج بنود واضحة في قانون المالية لسنة 2025، تنصّ على إلزامية التعامل البنكي في بعض القطاعات الحساسة، وعلى رأسها القطاع العقاري. ومع ذلك، لم يشفع كل هذا الجهد للجزائر، التي وجدت نفسها اليوم مدرجة، مجددًا، في قوائم “المراقبة المشددة” الأوروبية، إلى جانب دول مثل فنزويلا ولبنان.
رئيسة مجموعة العمل المالي، المكسيكية إليسا دي أندا مادرازو، أكدت في أكثر من مناسبة أن إدراج الدول ضمن القائمة الرمادية لا يُعدّ قرارًا عقابيًا، بل يهدف إلى دفعها نحو تحسين أنظمتها الرقابية، من خلال خطط عمل متفق عليها. غير أن القراءة الجزائرية، سواء على المستوى الرسمي أو في أوساط الرأي العام، ترى في هذا النوع من القرارات نوعًا من الضغط غير المباشر، الذي يستهدف تقويض صورة البلاد في محيطها الاقتصادي والدولي، وعرقلة جهودها للانعتاق من التبعية المالية والسياسية لدوائر النفوذ التقليدية.
من الناحية التقنية، يتجاهل القرار الأوروبي حجم التقدم المُسجّل على الأرض. فالجزائر لم تكتف بإعلان نوايا أو إصدار بيانات، بل دخلت فعلًا في مسار تحديث شامل لمنظومتها المالية. وقد شُرع فعليًا في تنفيذ إجراءات ملموسة تحت إشراف وزارة المالية، وبالتنسيق مع بنك الجزائر، ووحدة الاستعلام المالي، والنيابة العامة. كما تنص القوانين الجزائرية الحالية على عقوبات صارمة قد تصل إلى عشر سنوات سجناً في قضايا غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهو ما يجعل التشريع الجزائري من بين الأكثر صرامة إقليميًا في هذا المجال.
من اللافت في التحديث الأخير لقائمة الاتحاد الأوروبي، شطب دول سبق وأن وُجهت إليها انتقادات دولية واسعة بشأن شفافيتها، على غرار الإمارات وجبل طارق والسنغال، في الوقت الذي تُدرج فيه الجزائر، التي تمضي بثبات نحو إصلاحات هيكلية مدروسة. هذه المفارقة تطرح علامات استفهام حول معايير التصنيف، ومدى استقلالية القرارات الأوروبية عن الحسابات السياسية والاصطفافات الجيوسياسية.
هل يُعقل أن تُدرج الجزائر، التي تخوض معركة شفافية واسعة منذ سنوات، وتعمل على إعادة بناء اقتصادها بعيدًا عن الريع والفساد، في نفس خانة دول تعيش انهيارًا اقتصاديا أو ماليًا، أو تفتقر إلى أية إرادة حقيقية للإصلاح؟ أم أن الجزائر تُحاسب اليوم على مواقفها السياسية المستقلة، ورفضها الانخراط في التبعية الاقتصادية المفروضة على بعض دول الجنوب؟
بعيدًا عن لغة المظلومية، لا يمكن تجاهل أن الجزائر قد ارتكبت في الماضي أخطاء في مجال الرقابة المالية، وأن الاقتصاد الموازي ظلّ لفترة طويلة واقعًا غير منظم. غير أن الاعتراف بالمشكلة هو الخطوة الأولى نحو حلها. وهذا ما فعلته الجزائر؛ إذ اختارت طريق الإصلاح من الداخل، لا تحت الضغط ولا بالإملاء، وإنما انسجامًا مع تطلعاتها في بناء اقتصاد عصري شفاف وخاضع للمحاسبة.
اليوم، تُتابَع ملفات غسل الأموال من طرف النيابة العامة، وتخضع البنوك والمؤسسات المالية لتدقيق داخلي وخارجي، كما تنخرط الجزائر في تعاون مع المؤسسات الإقليمية والدولية ذات الصلة. وهذا ما أكده الرئيس عبد المجيد تبون بنفسه، حين شدد في أكثر من مناسبة على أن “مكافحة الفساد لا تكون بالشعارات، وإنما بتجفيف منابعه البنكية والتجارية والقانونية”.
ليس من المبالغة القول إن الجزائر تُدفع اليوم نحو الزاوية مجددًا؛ لا لقصورها في محاربة تبييض الأموال، بل لتمسكها باستقلال قرارها المالي والسياسي، ورفضها للابتزازات المقنّعة بشعارات النزاهة الدولية. وإن إدراجها في هذه القوائم، دون مراعاة للجهود الحقيقية المبذولة، لن يُثنيها عن مواصلة مسارها الإصلاحي؛ بل على العكس، سيدفعها إلى التشبث أكثر بخيار البناء السيادي، مهما كانت الأكلاف.
فالجزائر التي استعادت سيادتها السياسية بالسلاح، لن تفرّط اليوم في سيادتها الاقتصادية بقرارات صادرة من مكاتب لا تعرف شيئًا عن تضحيات الشعوب، ولا عن معنى أن تبني دولة بإمكانياتك الذاتية، بعيدًا عن “قوائم الإملاء” التي كثيرًا ما تختلط فيها المعايير التقنية بالحسابات الاستراتيجية.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
صناعة السيارات: الحكومة تشدد القواعد
أكد وزير الصناعة، يحيى بشير، اليوم الخميس، أن الجزائر دخلت مرحلة حاسمة في مسار إعادة بناء …







