من خيال الإعلام إلى واقع السياسة: قراءة هادئة في الحملة الفرنسية على الجزائر
نشرت مجلة L’Express الفرنسية تحقيقًا طويلًا ومثيرًا للجدل، تحت عنوان “جواسيس وأكاذيب وأزمات: أزمة الثقة بين الجزائر وباريس”. ومن خلاله، أطلقت جملة من الاتهامات والادعاءات التي تمس بشكل مباشر مؤسسات الدولة الجزائرية، وتتقاطع بشكل متعمد مع الحساسيات التاريخية والسياسية بين البلدين.
ورغم أن المجلة قدمت ما يبدو على أنه “تحقيق استقصائي”، إلا أن المتابع المحايد لا يملك إلا أن يتساءل: ما الغرض الحقيقي من إعادة إنتاج سرديات استهلكها الإعلام الفرنسي منذ عقود؟ وهل نحن أمام عمل صحفي مستقل، أم مجرد واجهة لصراع مصالح بدأ يطفو على السطح، لا سيما في ظل تباين المواقف إزاء ملفات إقليمية حساسة؟
إن محاولة تصوير الجزائر كدولة ترسل “جواسيسها” إلى أوروبا تحت غطاء اللجوء، هي صيغة مكررة من الأسلوب الدعائي الذي يسعى لتقزيم الدول الصاعدة وتشويه سمعتها. ولا شك أن من يقرأ محتوى المقال يشعر بتداخل مقصود بين الحقل الأمني والسياسي، في سردية تميل أكثر إلى الإثارة الإعلامية منها إلى التحليل العميق.
فكيف يمكن لمجلة محترمة أن تستند إلى “مصادر مجهولة” و”معلومات غير مؤكدة” لتتهم مؤسسة سيادية مثل جهاز المخابرات الجزائري بممارسة أنشطة غير قانونية داخل التراب الفرنسي؟ وهل نُسي أن التعاون الأمني بين البلدين لم ينقطع حتى في أصعب الفترات؟ أم أن المجلة اختارت عن عمد تجاهل هذه الحقيقة من أجل حبكة إعلامية مشوّهة؟
ليس من الصدفة أن يتزامن هذا التحقيق مع تصاعد التوتر بين الجزائر وفرنسا بشأن ملفات الطاقة والهجرة وتقرير المصير في الصحراء الغربية. وكأن المطلوب هو إشغال الرأي العام الفرنسي والعالمي بقصص الجواسيس والخطف، بدلاً من مواجهة الأسئلة الجادة حول إخفاقات السياسة الفرنسية في شمال إفريقيا، وارتباك مواقفها في ملفات حساسة.
وبينما تزعم المجلة أن أجهزة الأمن الجزائرية تستهدف معارضين في فرنسا، تتغافل عن أن القضاء الفرنسي لم يُصدر حتى اليوم حكمًا واحدًا يدين الجزائر رسميًا في هذا السياق. فما يُسوق على أنه “تحقيق” لا يعدو كونه حملة ممنهجة لتأليب الرأي العام وتشويه سمعة خصم جيوسياسي يتزايد وزنه في المنطقة.
من اللافت أن التقرير يعرّج أكثر من مرة على موقف بعض المعارضين الجزائريين من ملف الصحراء الغربية، وكأن ذلك يبرر بشكل غير مباشر الحملة على الجزائر. وفي ذلك رسالة مبطنة مفادها أن الموقف الجزائري الثابت من حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، بات مزعجًا جدًا لبعض الدوائر الفرنسية، التي تسعى إلى إقحام الملف في كل سياق إعلامي، حتى وإن بدا بعيدًا عن جوهر القضية.
وإذا كان المغرب حليفًا تقليديًا لفرنسا، فإن ذلك لا يبرر شيطنة الجزائر، ولا تحميلها وزر كل المعارضين الذين قرروا انتقاد النظام المغربي أو فضح بعض خباياه. الإعلام ليس أداة لتصفية الحسابات الجيوسياسية، بل منبر للمساءلة الموضوعية.
المؤسف في تحقيق L’Express أنه يفتح الباب لتغذية خطاب الكراهية والشك المتبادل بين شعبين تجمعهما روابط تاريخية وثقافية عميقة. فبدلاً من بناء جسور التفاهم، يُعاد اجترار خطاب الحرب الباردة وتوجيه التهم جزافًا.
إن من يريد أن يمارس الصحافة بمهنية، عليه أن ينأى بنفسه عن الاصطفافات السياسية المعلنة أو المبطنة. أما التلويح كل مرة بـ”الخطر الجزائري”، فهو أسلوب بات ممجوجًا ولم يعد يخدع حتى المواطن الفرنسي البسيط، الذي يعرف أن مشكلاته الحقيقية في مكان آخر.
الجزائر دولة ذات سيادة، تحترم التزاماتها الدولية، وتؤمن بالتعاون الإقليمي بعيدًا عن الوصاية أو الابتزاز. ومن يحاول أن يجرّها إلى مستنقع الشك والعداء، لن ينجح، لأن الجزائر الجديدة تعرف من أين تُؤكل الكتف، وتدرك جيدًا أن زمن الهيمنة الناعمة قد ولّى، وأن العالم يتجه إلى إعادة رسم خرائط النفوذ على أساس الاحترام لا الهيمنة.
إن فرنسا الرسمية مدعوة إلى إعادة النظر في خطابها ومقاربتها للملف الجزائري، بعيدًا عن المنطق الاستعلائي أو الأمني، وإلا فإنها ستخسر شريكًا استراتيجيًا في ضفة المتوسط، لصالح قوى أخرى باتت تدق أبواب المنطقة بثقة ورؤية طويلة الأمد.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …