‫الرئيسية‬ الأولى هل مازالت الحروب حلاً للأزمات؟
الأولى - مقالات - 18 يونيو، 2025

هل مازالت الحروب حلاً للأزمات؟

هل مازالت الحروب حلاً للأزمات؟
اندلعت الحرب العالمية الثانية بعد الكساد العظيم والأزمة الاقتصادية العالمية، وتحوّلت منذ ذلك الحين إلى وسيلة يعتمدها النظام الرأسمالي العالمي للتخلّص من الأزمات البنيوية التي يُنتجها بفعل تناقضاته الداخلية. وقد ترسّخ في العقل الاستراتيجي الغربي أن الحروب الكبرى تُمهّد دائمًا لتسويات اقتصادية جديدة تعيد توزيع النفوذ والثروة، وتُنعش عجلة الإنتاج من خلال إعادة البناء.

غير أن المعطيات الراهنة تشير إلى تغيّر عميق في هذه المعادلة. فالحروب لم تعد تُنتج نتائج اقتصادية أو سياسية مماثلة لتلك التي ظهرت في منتصف القرن العشرين. وعلى الرغم من تصاعد مؤشرات التوتّر في مناطق متعددة، إلا أن غياب الأفق لأي مواجهة عسكرية شاملة يؤكد أن اللجوء إلى الحرب لم يعد حلًا فعّالًا لأزمات النظام الدولي، خاصة مع اقتراب النظام الرأسمالي من حالة إفلاس هيكلي عميق.

تشهد ألمانيا، للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، صعود نخب سياسية تدافع عن خيار الحرب باعتباره امتدادًا لمنطق إدارة الأزمات الكبرى. ويأتي هذا التوجّه في سياق أزمة اقتصادية غير مسبوقة، حيث تتزايد حالات إفلاس الشركات يوميًا بالآلاف، ويتعمّق الركود للسنة الثانية على التوالي، دون مؤشرات على استعادة النمو. وتُظهر التقديرات أن استمرار الوضع الراهن قد يؤدي إلى حالة كساد فعلي، يصعب الخروج منها ضمن الأدوات التقليدية المتاحة.

في المقابل، تواجه الولايات المتحدة وضعًا اقتصاديًا لا يقل هشاشة. إذ فشلت السياسات الاقتصادية الانعزالية التي طُبّقت خلال السنوات الأخيرة في تحقيق أي تحوّل نوعي، بل تسببت في موجة نزوح للشركات نحو الخارج، كما هو حال شركات كبرى مثل “جون دير” المتخصصة في المعدات الفلاحية، و”آبل”، و”أمازون” التي تفكّر جديًا في نقل نشاطها إلى كندا. ويُضاف إلى ذلك تراجع قدرة الدولة على فرض سيطرتها النقدية عالميًا، في ظل تنامي رغبة العديد من القوى الاقتصادية الناشئة في تجاوز هيمنة الدولار.

في هذا السياق، يُطرح خيار التصعيد العسكري ضد إيران ضمن ما يبدو أنه محاولة لإعادة خلط الأوراق الجيوسياسية، ولضرب التقارب المتزايد داخل مجموعة “البريكس”، التي باتت تمثّل تهديدًا حقيقيًا لمنظومة الهيمنة الاقتصادية الغربية. غير أن الحروب المحتملة اليوم تختلف جذريًا عن تلك التي شهدها القرن الماضي. فالحروب الحديثة لم تعد قادرة على خلق دورة إعادة بناء اقتصادية، بل تُفضي إلى دمار شامل لا يترك مجالًا للحياة أو لإعادة النشاط الاقتصادي، خصوصًا في حال استخدام أسلحة محرّمة مثل القنابل النووية أو القذرة.

أي ضربة عسكرية كبرى ضد إيران ستعني انهيارًا إقليميًا كاملًا، مع تداعيات تتجاوز الحدود الجغرافية وتطال المنظومة الاقتصادية العالمية برمتها. فالعالم بات يعيش وفق معادلة جديدة: “إما أن ينجو الجميع، أو يسقط الجميع”، وهو ما يتناقض مع منطق الحرب التقليدي القائم على فكرة التفوّق والنجاة من رماد المعركة.

في هذا المشهد، لا يُمكن فصل الدور الوظيفي للكيان الصهيوني عن استراتيجيات الهيمنة الأمريكية. فالموقع الذي يحتله هذا الكيان في السياسة الخارجية للولايات المتحدة يجعله أداة ضغط دائمة تُستخدم عند الحاجة لتأزيم الوضع أو خلط الأوراق. غير أن قدرته على فرض ميزان ردع أحادي لم تعد فعّالة، خاصة في ظل تنامي الوعي الدولي بضرورة تفكيك منطق الاستثناء السياسي الذي يحمي هذا الكيان من المحاسبة الدولية، حتى وهو يمتلك ترسانة نووية كاملة.

المنطق الذي يعتبر الحرب وسيلة صالحة للخروج من الأزمات الاقتصادية بات منطقًا خاسرًا. فالحروب الحديثة ليست سوى مشاريع إبادة جماعية، ولا يمكن اعتبارها أدوات لتجديد الهيمنة أو فرض معادلات جديدة. وتُظهر طبيعة التهديدات المرتبطة بما يُعرف بـ”القنبلة القذرة” مدى تعقيد الوضع الدولي، وحجم المخاطر المرتبطة بأي انزلاق عسكري غير محسوب.

الحل الوحيد يكمن في القبول الواقعي بالتعددية القطبية، والانفتاح على دخول قوى ناشئة في صياغة التوازنات الدولية الجديدة، على المستويات الاقتصادية، والسياسية، والدبلوماسية. ولم يعد ممكنًا التسامح مع فكرة أن كيانًا مثل إسرائيل يمكن أن يبقى فوق القانون الدولي، أو بمنأى عن المحاسبة، حتى لو امتلك ترسانة نووية كاملة.

لن يكون ضرب إيران، أو غيرها، بأسلحة محرّمة دوليًا وسيلة فعّالة لكبح صعود البريكس أو إنقاذ الاقتصاد الغربي من أزماته المتراكمة. فالردود المتوقعة قد تتجاوز كل التقديرات، وتقود إلى انفجار لا يريده أحد. لقد تجاوز العالم مرحلة الحلول العسكرية، وأصبحت الحاجة ملحّة لصياغة مقاربات سياسية جديدة تُعلي من شأن التفاوض والتوازن، بدلًا من المقامرة بالحروب الكارثية.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء

صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…