من غار جبيلات إلى الصحراء الغربية .. حقيقة التكالب الفرنسي المروكي ضد الجزائر!
تشهد العلاقات بين فرنسا والجزائر تصعيدًا غير مسبوق في التاريخ المعاصر، مما أثار العديد من التساؤلات حول الأسباب التي دفعت باريس إلى تغيير سياستها تجاه الجزائر. كانت فرنسا، على مدار سنوات، تسعى للحفاظ على علاقة متوازنة مع الجزائر، لكن يبدو أن هذه العلاقة قد أصبحت أكثر تعقيدًا في ظل تغير المواقف الفرنسية.
أحد أبرز الأسباب التي ساهمت في تحول موقف فرنسا هو ملف استغلال “غار جبيلات”، وهو أحد أكبر مناجم الحديد في العالم المفتوحة على الهواء الطلق، الذي يقع في جنوب غرب الجزائر بالقرب من الحدود مع موريتانيا، وتحوي هذه المنطقة احتياطيات ضخمة من خام الحديد، يقدرها البعض بحوالي 3.5 مليار طن، منها 1.7 مليار طن قابلة للاستغلال. يُعتبر استغلال هذه الثروة المعدنية فرصة اقتصادية ضخمة للجزائر، إذ يُتوقع أن يساهم المشروع في توفير حوالي 10 مليارات دولار مداخيل للخزينة ويؤمن تنويع الاقتصاد الجزائري، بالإضافة إلى تعزيز الصادرات ودعم تكامل الاقتصاد الجزائري.
منذ سنوات طويلة، كانت فرنسا تطمح في الحصول على حصة من الاستثمار في هذه الموارد الاستراتيجية، لكن الجزائر قررت إبعاد باريس عن المشروع، واختارت التعاون مع دول مثل الصين وروسيا وتركيا التي تقدم الإضافة للاقتصاد الجزائري، مما شكل ضربة اقتصادية كبيرة لفرنسا التي كانت تعتقد أن لها الحق لوحدها في استغلال هذا المورد. وبذلك، فقدت فرنسا فرصة الوصول إلى ثروة غار جبيلات، وهو ما دفعها للبحث عن طرق لتعويض هذه الخسارة، وقامت بتحريض المخزن المروكي للهجوم على الجزائر وتهديدها حتى بالحرب.
جذور الأزمة الحالية بين الجزائر وفرنسا تعود إلى حرب الرمال في عام 1963، حيث دعمت فرنسا المروك عسكريًا في محاولة للاستحواذ على أراضٍ جزائرية. هذا الدعم الفرنسي كان جزءًا من استراتيجية أوسع لتعزيز نفوذها في المنطقة، حيث قدمت مساعدات عسكرية واستخباراتية للمروك، بما في ذلك تزويده بأسلحة متطورة، ودبابات، ومدرعات، فضلاً عن تزويده بمعلومات استخباراتية دقيقة حول تحركات القوات الجزائرية. هذه المساعدة كانت تهدف إلى تمكين المروك من فرض سيطرته على الأراضي المتنازع عليها مع الجزائر، وكان غار جبيلات من بين الأهداف الإستراتيجية التي كان الفرنسيون يسعون للوصول إليها من خلال دعمهم للمخزن.
في نفس السياق، يكشف تقرير استخباراتي أُصدرته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) وتحصلت “المؤشر” على نسخة منه عن الدور الخفي الذي لعبته فرنسا في دعم المروك خلال حرب الرمال. في هذا التقرير، الذي تم رفع السرية عنه، يُذكر أن فرنسا قدمت للمروك دعمًا عسكريًا واسع النطاق في النزاع مع الجزائر، بما في ذلك تزويد المروك بحوالي 50 دبابة ومدرعة، بالإضافة إلى أكثر من 50,000 قطعة سلاح. كما أن فرنسا قدمت أيضًا دعمًا استخباراتيًا حاسمًا، من خلال إنشاء وحدة استخبارات خاصة في عام 1964 للتعاون مع المروك في مراقبة تحركات القوات الجزائرية على الحدود. هذا الدعم كان يستهدف تعزيز نفوذ فرنسا في المنطقة، ومحاولة السيطرة على مناطق غنية بالموارد الطبيعية مثل غار جبيلات.
الجزائر، ومن أجل خفض التوتر مع المروك كما هو مبين في مقدمة اتفاقية 1973 للتعاون من أجل استغلال مكمن منجم غار جبيلات، تم الاتفاق على إنشاء شركة مختلطة جزائرية-مروكية لاستغلال المنجم الاستراتيجي مع التأكيد على أنه يقع تحت السيادة المطلقة للجزائر. وكان من بنود الاتفاقية التزام المروك بإنجاز طريق نحو المحيط الأطلسي لنقل منتوج المنجم إلى الأسواق الدولية. وحددت الاتفاقية المسؤولين عن الجانب المروكي والجزائري للقيام بتأسيس الشركة، ولكنها لم ترى النور إلى اليوم وسقطت الاتفاقية التي نُشرت في العدد 48 بتاريخ 15 يونيو 1973 في الجريدة الرسمية الجزائرية مع اتفاقية ترسيم الحدود التي قبلت فيها الجزائر معاهدة مغنية التي اقتطعت منها أراضي شاسعة، منها منطقة تافيلالت ووجده، قدّمها الاستعمار الفرنسي كهدية لسلطان المروك.
وبعد سنوات، قررت الجزائر في إطار تنويع مصادر دخلها وبفضل سياسة الرئيس عبد المجيد تبون الجريئة والوطنية إعادة إحياء مشروع غار جبيلات والبحث عن شراكات اقتصادية مع دول أخرى مثل الصين وروسيا وتركيا، مما أغضب فرنسا واتجهت إلى تعديل استراتيجيتها وتحالفاتها، فوجدت في المروك شريكًا دائمًا ومنفذًا وفيًا لمخططاتها. فتبنّت فرنسا موقفًا داعمًا للمطالب المروكية في نزاع الصحراء الغربية، مما يبرز رغبتها في الضغط على الجزائر لتحقيق مصالحها الاقتصادية.
التحالف الفرنسي-المروكي القديم الجديد والذي تجسد في دعم باريس للأطماع المخزنية في الصحراء الغربية يعكس المصالح الاقتصادية الكبرى لفرنسا، حيث سعت لتحقيق تأثير اقتصادي في المنطقة عبر بوابة غرب شمال إفريقيا.
منذ عام 2009، تحاول الجزائر استغلال منجم غار جبيلات من خلال شركة سوناطراك. ومع ذلك، لم تنجح المناقصات الدولية التي أطلقتها سوناطراك في جذب اهتمام الشركات الدولية، وبقي المشروع في مرحلة “إعداد الجدوى”. يشمل المشروع الذي طرح في عام 2005 خططًا لتمرير خام الحديد عبر خطوط سكك حديدية لربط تندوف ببشار شمالًا، وإنشاء مصنع للصناعات الحديدية بالقرب من ميناء لتصدير جزء من الإنتاج، بالإضافة إلى بناء مدينة عمالية في الموقع.
ولكن في إطار التوجه الجديد للجزائر، تم توقيع مذكرة تفاهم بين المؤسسة الوطنية العامة FERAAL Consortium ومجموعة من شركات صينية مكونة من MCC وCWE وHEYDAY SOLAR. وتعتمد هذه المجموعة على استخدام الطاقة المتجددة، خصوصًا الطاقة الشمسية، في عملية استخراج الحديد، بالإضافة إلى استخدام الشاحنات الكهربائية لتقليل التكاليف. من المتوقع أن يبدأ المشروع في تحقيق عوائد اقتصادية بحلول عام 2030، مع استعداد خط السكك الحديدية بين غار جبيلات وتندوف وبشار للانطلاق في نهاية 2026 أو بداية 2027.
إلى جانب التغيير في التحالفات السياسية والاقتصادية، شنّت فرنسا حربًا إعلامية ضد الجزائر، مستخدمة وسائل الإعلام لتشويه صورة النظام الجزائري والتأثير على الرأي العام الدولي. حملات إعلامية تم استخدامها لاستهداف استقرار الجزائر الداخلي، من خلال استضافة “حركى” في وسائل الإعلام الفرنسية. وفي هذا السياق، أثارت عملية توقيف وسجن الكاتب بوعلام صنصال الذي تباع روايته في مكتبات الجزائر بصفة عادية جدًا الجدل في الجزائر بعدما أطلق تصريحات مشككة في وحدة الجزائر الترابية، حيث ادعى أن الغرب الجزائري كان جزءًا من مملكة المروك دون أن يذكر لنا عن أي مملكة يتحدث، ونحن نعرف أن المروك كان جزءًا من الدولة الزيرية الجزائرية التي كانت عاصمتها مدينة المدية، كما كان جزءًا من جنوب إسبانيا تابعًا لها أيضًا، وهو ما يعكس نية الكاتب صنصال ومحاولته تشويهه المتعمد لتاريخ الجزائر ومحاولة لتزوير تاريخ سيادتها.
في ظل هذه التحولات، أشار الرئيس عبد المجيد تبون إلى إمكانية تهدئة العلاقات مع فرنسا شريطة أن تُظهر باريس احترامًا أكبر ومتبادل للجزائر. الجزائر اليوم تمتلك مكانة اقتصادية ودبلوماسية قوية على الساحة الدولية، ولن تسمح لأي جهة خارجية بتقويض سيادتها أو التأثير على شؤونها الداخلية. إذا كانت فرنسا تسعى إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع الجزائر، فعليها أن تراجع استراتيجياتها في المنطقة، خاصة فيما يتعلق بمشروع غار جبيلات.
إن استغلال منجم غار جبيلات يُعتبر قرارًا سياديًا بامتياز، يوفر فرصة اقتصادية كبيرة للجزائر، ويحدث في سياق معقد من التحولات السياسية والدبلوماسية التي تحكم العلاقات بين الجزائر وفرنسا. القرار هو تعبير عن استقلال الجزائر الاقتصادي والسياسي وقد يكون له تأثير كبير على وضع المنطقة في المستقبل، ويؤكد أن الجزائر لن تسمح لأي جهة، مهما كانت، أن تتلاعب بمصيرها أو التأثير على سيادتها الاقتصادية.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …