‫الرئيسية‬ الأولى أنبوب الغاز العابر للصحراء.. مشروع استراتيجي لا يسقط بالتكهنات

أنبوب الغاز العابر للصحراء.. مشروع استراتيجي لا يسقط بالتكهنات

أنبوب الغاز العابر للصحراء.. مشروع استراتيجي لا يسقط بالتكهنات
في الوقت الذي تسعى فيه إفريقيا لتأمين مستقبلها الطاقوي عبر شراكات إقليمية تعزز السيادة الاقتصادية والاندماج القاري، طفت على السطح بعض المقالات والتقارير الإعلامية، على غرار ما تنشره الصحافة المخزنية، تتحدث عن “تعليق” مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء، الرابط بين الجزائر ونيجيريا عبر النيجر، وتلوّح بانهياره لأسباب سياسية، خاصة في ظل التوترات الأخيرة بين الجزائر وبعض دول الساحل.

غير أن هذه القراءة المتسرعة تتجاهل عدة معطيات جوهرية تجعل من هذا المشروع خيارًا استراتيجيًا طويل المدى، لا يمكن أن يتأثر باضطرابات مؤقتة أو حسابات إعلامية ظرفية.

أنبوب الغاز العابر للصحراء (Trans-Saharan Gas Pipeline – TSGP) ليس وليد اللحظة، بل هو ثمرة إرادة سياسية وإستراتيجية مشتركة بين ثلاث دول أساسية: الجزائر، نيجيريا، والنيجر. ومنذ توقيع مذكرة التفاهم بين وزراء الطاقة في البلدان الثلاثة في يونيو 2022، تم إحراز تقدم كبير على مستوى الدراسات التقنية والميدانية واللوجستية، ما يجعل الحديث عن “تعليق” المشروع في هذه المرحلة مجرد افتراض غير مدعوم بأي بيان رسمي أو موقف حكومي معلن.

الجزائر، من جهتها، تمتلك واحدة من أضخم شبكات نقل الغاز الطبيعي في القارة، كما أن بنيتها التحتية الموصولة بأوروبا (أنبوب ميدغاز، وخط أنبوب الغاز المغاربي-الأوروبي سابقًا) تمنحها ميزة تنافسية فريدة تجعلها شريكًا مثاليًا لنقل الغاز النيجيري نحو السوق الأوروبية، خاصة في ظل تسارع الطلب العالمي بعد الأزمة الروسية-الأوكرانية.

إذا كانت السياسة متقلبة، فإن الجغرافيا أكثر ثباتًا. والمشروع الجزائري النيجيري يستفيد من مسار مختصر ومستقيم نسبيًا، مقارنةً بالمشروع المغربي البديل الذي يمر عبر عدة دول بغرب إفريقيا. من ناحية التكلفة، يتطلب مشروع الجزائر حوالي 13 مليار دولار لنقل ما يصل إلى 30 مليار متر مكعب سنويًا من الغاز، وهي قيمة قابلة للتنفيذ بالنظر إلى الفوائد الاقتصادية المتوقعة. بينما يتطلب مشروع أنبوب الغاز المغربي – الذي يعبر أكثر من عشر دول – استثمارات أعلى، مع تعرضه لتحديات لوجستية وأمنية أكبر، وتفاوت في الاستقرار الداخلي للدول التي يعبرها.

المقارنة بين المشروعين لا يمكن حسمها بناءً على التطورات الدبلوماسية الآنية، بل تُقاس بمدى الجاهزية التقنية، والتوافق الاستراتيجي، والمصداقية التاريخية في تنفيذ المشاريع الكبرى. في هذا السياق، لا يمكن إنكار تفوق الجزائر في الوفاء بالتزاماتها الطاقوية، حيث تزود منذ عقود دول الاتحاد الأوروبي بالغاز بطريقة منتظمة وموثوقة.

صحيح أن العلاقات الجزائرية مع بعض الدول الساحلية تمر بمرحلة توتر، إلا أن هذا لا يعني نهاية التعاون في المشاريع الاقتصادية الكبرى. فالتاريخ يعلمنا أن المصالح الاستراتيجية الكبرى كثيرًا ما تتجاوز الخلافات المؤقتة، خاصة حين يتعلق الأمر بأمن الطاقة والتنمية المستدامة.

إن ما يحدث اليوم على الساحة الإفريقية، خصوصًا في منطقة الساحل، هو جزء من مخاض جيوسياسي واسع، يتضمن تحولات في أنظمة الحكم، وتبدل في التحالفات الإقليمية، وتدخلات خارجية متعددة. ومع ذلك، فإن الجزائر أثبتت، عبر مواقفها الثابتة ومبادراتها المتوازنة، أنها تتعامل بمنطق الدولة، لا بمنطق الانفعال، وتسعى دوما للحفاظ على جسور التواصل مع كل الأطراف، دون التفريط في مبادئها أو مصالحها الحيوية.

أما المزاعم حول “امتعاض” النيجر من عمليات ترحيل مهاجرين غير نظاميين، فهي قضية ذات بعد أمني وإنساني معقد، تُعالج في إطار ثنائي وإقليمي، وليست كافية لتقويض مشروع استراتيجي يستفيد منه الطرفان، خصوصًا أن النيجر نفسها تُعاني من تدفقات مهاجرين غير شرعيين من بلدان إفريقية أخرى، مما يجعل التنسيق الأمني مع الجزائر ضرورة لا ترفًا.

المثير للاهتمام في مثل هذه المقالات، أنها تحاول تسويق فشل جزائري مزعوم لتلميع مشروع بديل مغربي لم يتجاوز بعد المرحلة النظرية. الحديث عن دعم دولي واسع لمشروع الأنبوب المغربي لا يستند إلا إلى تصريحات سياسية ووعود استثمارية مستقبلية، في حين أن الأرضية التقنية، وحجم الإنجاز الميداني، وحتى التمويل العملي، ما تزال محل تساؤل. كما أن كثرة الوسطاء الدوليين والإقليميين في هذا المشروع تُضعف من استقلاليته وتجعله رهينة تقاطعات مصالح متضاربة.

في المقابل، تتبنى الجزائر منهجية عقلانية ومستقلة، قائمة على الاستثمار الذاتي، والشراكات الثنائية، والابتعاد عن منطق التدويل السياسي للمشاريع الاقتصادية.

الحديث عن “انهيار” مشروع أنبوب الغاز الجزائري-النيجيري بسبب توترات سياسية مؤقتة يعكس سوء تقدير لطبيعة العلاقات الدولية المعاصرة، حيث تُبنى المشاريع الكبرى على أساس المصالح المشتركة لا الانفعالات الظرفية. الجزائر، التي تدير ملف الطاقة بكفاءة وهدوء استراتيجي، تواصل طريقها بثبات، مدعومة ببنية تحتية قوية، وشبكة علاقات دولية متوازنة، وإرادة سياسية لا تتأثر بالحملات الدعائية أو الرهانات الهامشية.

والرهان الحقيقي اليوم لا يتعلق فقط بمن يسبق الآخر في ربط الغاز النيجيري بأوروبا، بل بمن ينجح في تحقيق تكامل إفريقي حقيقي، عادل، ومتوازن. وهذا هو ما تسعى إليه الجزائر دون ضجيج.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

فرنسا تغرق في فوضى سياسية… وريتايو يدفع ثمن كراهيته للجزائر

يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جاهدًا استعادة زمام المبادرة السياسية في بلاده، بعد أ…