كمال داود يهرب من ميلانو… والقلم لا يحمي من المحاسبة!
هرب كمال داود من ميلانو كما يهرب المتهم من قوس العدالة، وكما يفرّ المرتبك من ظلال ماضٍ لم يحسمه مع وطنه. لم تكن الرحلة إلى إيطاليا مجرد جولة أدبية لترويج رواية، بل كانت، بالنسبة له، احتمالًا ثقيلًا بأن تتحوّل كلمات روايته الأخيرة إلى بنود اتهام، وأن يواجه في مطار ميلانو قاضيًا لا قارئًا، ورجال شرطة لا جمهورًا متحمسًا.
ففي الوقت الذي كانت فيه الأنظار الأدبية متجهة نحو مشاركته في مهرجان Milanesiana الثقافي نهاية جوان 2025، فجّر داود مفاجأته، إلغاء الرحلة بالكامل خوفًا من التوقيف ثم الترحيل إلى الجزائر، حيث يواجه ملاحقات قضائية تتعلق بانتهاك قانون المصالحة الوطنية واتهامات أخرى أشد خطورة، على رأسها “الاعتداء على الحياة الخاصة”، في قضية تثير الجدل أكثر مما تثير الإعجاب.
كمال داود، الكاتب الذي حصل على جائزة غونكور 2024 عن روايته “حوريات”، لم يكتفِ برسم شخصية متخيلة تنجو من العشرية السوداء، بل استعار – حسب شكوى موثّقة – تفاصيل من قصة حقيقية لامرأة جزائرية، أدخلها في عمله دون إذن، مخلًا بخصوصيتها، ومستندًا إلى معطيات طبية من ملفها الشخصي. رفضت صاحبة القصة الصمت، ورفعت دعوى قضائية، لتتحول جائزة داود الأدبية إلى ورقة دفاع مهترئة في معركة قانونية.
يصرّ داود، في وسائل الإعلام الفرنسية، على نفي التهم، ويقدم نفسه كضحية للرقابة الجزائرية، لكنه لم يظهر يومًا في قاعة المحكمة، ولم يكلّف نفسه عناء الدفاع عن نفسه في بلده. هو يكتب، يهاجم، يسخر، لكنه لا يواجه. وها هو اليوم، بعدما كان يعد نفسه نبيًا للحداثة والتحرر، يتحول إلى مجرد شخص يلاحقه قانون بلاده، ويخشاه.
العدالة الجزائرية لم تتعامل مع القضية برد فعل سياسي، بل اتبعت مسارًا قانونيًا واضحًا، فأصدرت محكمة وهران مذكرتي توقيف دوليتين بحقه، في مارس وماي 2025. وبينما رفضت الإنتربول تفعيل المذكرات، نشرت صحف إيطالية كبرى، مثل كوريري ديلا سيرا، خبرًا مفاده أن قاضيًا في ميلانو وافق مبدئيًا على تسليمه، ما دفع داود إلى الانسحاب فورًا من الرحلة، وهو الذي لا يترك مناسبة أوروبية دون أن يرفع فيها راية “حرية التعبير” ضد بلاده. ولأن الغرب لا يحبّ أن يرى أحد أبطاله في موقف الضعف، خرجت الصحف الفرنسية بسرعة للدفاع عن داود، وفتح كتّاب ومثقفون فرنسيون النار على العدالة الجزائرية، متهمينها بـ”تكميم الأفواه”، وكأن انتهاك حياة مواطنة جزائرية والتلاعب بسيرتها ليس جريمة، بل إبداعًا أدبيًا يُكافأ عليه.
الفضيحة لم تتوقف في ميلانو. فقد كان من المفترض أن يسافر داود إلى الصين ضمن جولة أدبية جديدة، لكنه ألغى الرحلة أيضًا، مبررًا قراره بخوفه من توقيفه هناك وتسليمه إلى الجزائر، في ظل العلاقات الجيدة بين بكين والجزائر. هكذا، تحوّلت رحلات الكاتب إلى مطاردات افتراضية، وهروبه من بلد إلى آخر بدا أشبه برواية جديدة، بطلها ليس خيالًا بل واقعًا مريرًا يطارد صاحبه. كمال داود، الذي كان يصوّر الجزائر كجدار يُقمع فيه الحرف، اكتشف أن “العالم الحر” الذي لطالما مدحه، قد لا يقف إلى جانبه حين يتعلق الأمر بانتهاك القانون. وأن الكتابة، حين تتجاوز حدود الأخلاق، لا تعود حرة بل تصبح طعنة في ضمير المجتمع.
ربما ما يزيد من غرابة هذه القصة، أن كمال داود لم يُنظر إليه يومًا ككاتب محايد. بل ارتبط اسمه منذ سنوات بخطاب معادٍ للهوية الجزائرية، وبمقالات تروّج للنمط الاستشراقي الحديث، متماهية مع السردية الفرنسية التي تصوّر الجزائر كبلد متخلف، منغلق، لا مستقبل له دون وصاية خارجية. والسؤال اليوم، هل ما يكتبه داود فعلًا أدبٌ، أم وظيفة فكرية بأجندة جيوسياسية؟ وهل رواية “حوريات” بريئة من التوظيف، أم أنها أداة أخرى من أدوات ضرب الذاكرة الوطنية، والتشكيك في مشروعية الدولة؟ ما من دولة تُحاكم كاتبًا لأنه يكتب، لكن ما من دولة تحترم نفسها وتترك كاتبًا ينتهك الخصوصيات، ويحرّض، ويشوّه ثم يطلب الحصانة.
هرب كمال داود من ميلانو، لكنه لن يهرب من الحقيقة. فالحقيقة ليست في الجوائز، بل في الوثائق القانونية. وليست في صفحات الكتب، بل في أوراق المحكمة. ومهما طال هروبه، فعدالة الوطن لا تسقط بالتقادم، ولا تنخدع بالفرنسية الأنيقة، ولا تهتز أمام غلاف رواية على رف باريس. لقد كتب داود “حوريات”، لكن الجزائر قد تكتب فصلًا أخيرًا عنوانه، المثقف الذي هرب من قلمه حين استُدعي للمساءلة.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …