الحرية التي تُرعب ريتايو
لم تعد المسألة مجرد تأشيرة تُمنح أو تُمنع، ولا أصول مالية تُجمّد بقرار إداري. ما يحدث اليوم بين باريس والجزائر هو فصل جديد في معركة طويلة بين سيادة أمة حرة وبين عقل استعماري مريض يرفض أن يعترف بالهزيمة، حتى بعد أكثر من ستين سنة من الخروج المذل من أرضٍ لم تكن يومًا له. الجزائر تواجه فرنسا؟ لا، الجزائر تواجه اليوم ما تبقّى من فرنسا الاستعمارية، تلك التي خلعت زيّها العسكري وارتدت بذلة وزارية، لكنها لم تتخلّ عن نفس الغطرسة، نفس التكبر، نفس الازدراء العنصري لشعب لم يركع… ولن يركع.
برونو ريتايو، وزير الداخلية الفرنسي، ليس مجرد سياسي يميني متطرف، إنه الوريث الشرعي لخطاب منظمة OAS الإرهابية. المنظمة التي فجّرت الأطفال في المدارس، واغتالت الشيوخ في الأسواق، وزرعت الموت في الأزقة باسم “الجزائر الفرنسية”. اليوم، لا يحمل ريتايو قنابل، بل يحمل خطاب كراهية، لكنه أكثر خطرًا، لأنه يتسلل تحت غطاء “السيادة”، و”الأمن”، و”تنظيم الهجرة”. لكن الجزائري يعرف هذا الخطاب جيدًا… لقد سمعه من قبل. سمعه وهو يُجلد، ويُنفى، ويُعتقل. لكنه قاوم، وانتصر. واليوم، سيقاوم من جديد، وسينتصر من جديد.
أي فرق بين ريتايو ومن سبقه من المستعمرين؟ بالأمس كانوا يرموننا في السجون لأننا طالبنا بالحرية، واليوم يريدون طردنا من فرنسا لأننا نمارسها. بالأمس كانوا يقولون إن الجزائر تهدد وجودهم، واليوم يكررون نفس الأكذوبة، فقط بصوت أعلى، وبلغة أكثر “حداثة”. إنها نفس العُقدة… عُقدة الجزائري الذي رفض أن يكون تابعًا. ومن هنا تنبع كل هذه الكراهية، كل هذا الهوس.
اليمين الفرنسي لا يخاف من الجزائري لأنه مجرم كما يدّعي، بل لأنه حر. لأن الجزائري، حيثما كان، في بلاده أو في المهجر، يرفع رأسه. لأن التاريخ يقول لهم كل يوم إنكم خسرتم حرب الجزائر، ولا تزالون تدفعون ثمنها نفسيًا. أما رئيسهم، إيمانويل ماكرون، فهو ليس سوى ظل باهت لرجل بلا قرار. بدأ ولايته بخطاب الندم، وانتهى إلى صمت الخنوع. يخشى من اليمين أكثر مما يخشى من احتقار التاريخ له. رجل تهزه استطلاعات الرأي، وتوجهه حملات الكراهية، وتجره وزارته إلى مستنقع لا رجعة فيه. كيف لرئيس يقول إنه يريد المصالحة، أن يسمح لوزير داخليته بأن يدوس على كرامة ملايين الجزائريين، داخل فرنسا وخارجها؟
لكنهم ينسون شيئًا واحدًا. الجزائر ليست جمهورية موز. الجزائر ليست تابعًا لأحد. الجزائر، كما كانت دائمًا، أمة لا تنحني. الذين أرادوا لها الخضوع انتهوا في مزبلة التاريخ، والذين جاؤوا بالبارود غادروا منهزمين. الجزائر اليوم أكثر وعيًا، أكثر قوة، أكثر وحدة. وعي شعبها لم يعد يسمح بالتلاعب، وقادتها لا يحتاجون دروسًا في السيادة من بلد يهاجم مواطنيه في الإعلام كلما اقتربت انتخابات.
نعم، يجب أن نقولها كما هي، ما تفعله فرنسا اليوم عارٌ أخلاقي وسياسي. دولة تتبجح بحقوق الإنسان وهي تمارس العنصرية ضد جالية كاملة. دولة ترفع شعارات الحرية، وهي تضع شروطًا على الكرامة. لا. لن نقبل. لا تأشيرة، لا صفقة، لا خطاب دبلوماسي ناعم… سيغسل هذه الإهانة. ما نريده واضح، احترام. اعتذار. واعتراف بأن زمن السيطرة انتهى.
الجزائري الذي ناضل تحت الجوع والرصاص لن تهينه مداخلة نائب متطرف، ولا مرسوم إداري. الجزائر اليوم أقوى من كل هذا، لأنها تعرف الحقيقة، اليمين الفرنسي لا يكرهنا لأننا غرباء… بل لأنه يعرف أننا كسرنا أسطورة فرنسا التي لا تُقهر. وهذا هو الجُرح الذي لم يندمل بعد.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!
تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…