القضاء يفضح جهل ريتايو
في زمن الأزمات المتشابكة، حين تفقد الدولة بوصلتها بين الأمن والعدالة، بين القانون والخطاب الشعبوي، تكون النتيجة ما شهدناه في قضية الشاب الجزائري “عماد تينتين”. شاب في الهامش، بصوت صاخب على الشبكات، يعيش دون إقامة، بلا وظيفة رسمية، ينشر مقاطع استفزازية تمزج بين السخرية والانفعال. ومع ذلك، تحوّل فجأة إلى قضية سيادية تشغل فرنسا من أعلى هرم السلطة حتى أصغر محكمة محلية.
تحت غطاء محاربة “خطاب الكراهية”، قررت الحكومة الفرنسية، ومعها شخصيات سياسية من التيار اليميني، وفي مقدمتهم برونو ريتايو، شن حملة مضادة ضد مؤثرين جزائريين، تصدّرهم عماد. وكان الغطاء القانوني هو قرار الطرد الإداري (OQTF) الصادر في 2023، ثم توالت إجراءات التوقيف، والتحقيق، والمحاكمات، إلى أن تم الزجّ بالشاب في السجن المؤقت بتهم ثقيلة كالتحريض على العنف والكراهية، وربما الإرهاب.
لكن كل هذا البناء سقط، كما تسقط مسرحية رديئة الإخراج. الترجمة غير الدقيقة لفيديوهاته تسببت في تأجيل المحاكمة مرارًا. لم تتمكن النيابة من تقديم دليل قاطع على مضمون التحريض المزعوم. والأخطر من ذلك: عماد، خلال هذه الفترة، تزوج من مواطنة فرنسية، وأنجب منها طفلة فرنسية، وقدّم طلب إقامة قانونية وفق بند “الحياة الخاصة والعائلية”، المدعوم باتفاقيات واضحة بين باريس والجزائر.
من الناحية القانونية، هذا الملف لم يكن معقدًا. القانون الفرنسي صريح، لا يجوز طرد أبٍ لطفل فرنسي قاصر إذا كان يشارك في رعايته أو إعالته. إذًا، لماذا أصرت السلطات على المضي في هذه الإجراءات، رغم علمها ـ أو يفترض أنها تعلم ـ باستحالة تنفيذ قرار الطرد؟ لماذا تجاهلت محافظة المنطقة المستندات المدنية، واستمرت في إرسال طلبات ترحيل إلى الجزائر، رغم أن الأخيرة رفضت الرد عليها ثلاث مرات؟
الجواب المؤسف هو أن الحسابات السياسية طغت على منطق الدولة. أراد البعض أن يقدّموا للرأي العام صورةً عن “صرامة الجمهورية”، حتى لو كانت تلك الصرامة موجهة نحو مؤثر عشوائي، لا يملك سوى هاتف وإنترنت. أرادوا أن يثبتوا أن فرنسا قادرة على قمع أي خطاب يتجاوز “الخط الأحمر”، لكنهم اختاروا المعركة الأسهل، وربما الأضعف قانونًا، لرفع راية النصر.
وفي هذه المسرحية، ظهر وزير الداخلية الفرنسي، وكأنه “الشرطي الأول للجمهورية”، يقود معركة تطهير رمزية. لكنه نسي أن الدولة لا تُدار بالرمزية فقط، بل بالقانون. وإذا كان يجهل القانون، فالمصيبة أكبر. أما إذا كان يعرفه ويتجاهله، فالمأساة مضاعفة.
اليوم، بعد أن ألغت المحكمة الإدارية في غرونوبل قرار الطرد، ومنحت عماد تصريح إقامة مؤقتًا، وأمرت بتعويضه بمبلغ 800 يورو، لا يمكن الحديث عن “صرامة”، بل عن تراجع مذلّ للدولة أمام قوانينها نفسها. لا لأن عماد انتصر، بل لأن فرنسا هُزمت أمام خطابها المزدوج، تطبيق القانون حين يخدمها، وتجاهله حين يعارض رغبتها السياسية.
لقد تحوّل ما كان يجب أن يكون إجراءً إداريًا روتينيًا، إلى أزمة سياسية وقانونية وإعلامية، أضرت بصورة الدولة أكثر مما أضرت بعماد. ومهما كانت إساءاته، ومهما بلغت تفاهة محتواه، ففرنسا الجمهورية لا يُفترض أن ترد على “التفاهة” بتفاهة مماثلة.
هل يعقل أن دولة مثل فرنسا، بجهاز قضائي محترف، وبمستشارين قانونيين في كل وزارة، لم تكن قادرة على التنبّه إلى أن قرار الطرد سيُلغى حتمًا أمام القضاء؟ هل يمكن تصديق أن هذه الدولة تجهل أن القانون الفرنسي ـ والدولي ـ يمنع طرد والد لطفل فرنسي؟ أم أننا أمام توظيف مقصود للقانون لأغراض استعراضية، مع علمٍ مسبق بأنها معركة خاسرة؟
لم يكن عماد تينتين هو المشكلة. بل كانت المشكلة في من قرر أن يصنع منه عدوًا للجمهورية، فقط ليكسب جولة إعلامية. لكن هذه الجولة تحوّلت إلى فضيحة مؤسساتية تكشف هشاشة القرار السياسي حين ينفصل عن القانون.
فرنسا، كما عرفناها، هي دولة مؤسسات. وإذا أرادت أن تبقى كذلك، فعليها أن تختار، إما أن تحكمها العدالة، أو تحكمها خطابات الخوف. ولا يمكنها المزاوجة بين الاثنين دون أن تخسر كليهما.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!
تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…