‫الرئيسية‬ الأولى الولايات المتحدة أمام منعطف التاريخ.. لا خيار إلا “يالطا” جديد
الأولى - الدولي - مقالات - ‫‫‫‏‫7 ساعات مضت‬

الولايات المتحدة أمام منعطف التاريخ.. لا خيار إلا “يالطا” جديد

الولايات المتحدة أمام منعطف التاريخ.. لا خيار إلا “يالطا” جديد
لم يعد أمام الولايات المتحدة الأمريكية سوى خيار واحد لا مفر منه، وهو الجلوس لتنظيم “يالطا” جديد يعيد رسم موازين القوى في العالم، بعدما فقدت هيمنتها التاريخية وتزعزع مركزها كقوة أولى. فالمشهد الدولي اليوم يتغيّر بسرعة مذهلة، والعالم الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد كما كان.

اضطرّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى التدخل لوقف الحرب في غزة، لا حباً في السلام كما يدّعي، بل لأن تلك الحرب تحوّلت إلى عبء سياسي ومعنوي يُسيء إلى الكيان الصهيوني أولاً، وإلى أمريكا ثانياً. ومع تنامي مؤشرات انقلاب الرأي العام الأمريكي ضد سياسات الاحتلال، وتراجع نفوذ اللوبي الصهيوني داخل بعض دوائر القرار، وتزايد الغضب الشعبي في العواصم العالمية الكبرى، وجدت واشنطن نفسها في وضع حرج. كما أن الاستنزاف المالي والعسكري الناتج عن استمرار الحرب في غزة جعل ترامب يبحث عن مخرج سريع يغلق الجبهة الأكثر سخونة، بعدما تحوّلت من ورقة ضغط إلى مصدر تهديد لصورته ولنفوذ بلاده.

لم يكن ترامب يوماً حمامة سلام، بل رجل مصلحة يتقن الحسابات الباردة. لقد أغلق جبهة غزة ليس لوقف الدم، بل لتقليص الخسائر، ولتفادي مواجهة مفتوحة تستنزفه يومياً في وقتٍ تتصاعد فيه نُذر الانفجار في جبهات أخرى. جبهة أوكرانيا تشتعل أكثر مع فشل الحسم العسكري ضد روسيا، وجبهة فنزويلا بدأت تتخذ ملامح مواجهة أمريكية – صينية مباشرة. الجيش الأمريكي نفسه يعيش حالة ارتباك، ولم يعد يجرؤ على قصف السفن الصينية المتمركزة في البحر الكاريبي خوفاً من ردٍّ عسكري صيني قد يُشعل حرباً غير محسوبة.

الصين، التي طالما اتبعت سياسة النفس الطويل، قررت اليوم الانتقال إلى المواجهة العلنية. فقد سارعت إلى دعم فنزويلا سياسياً وربما عسكرياً، في خطوة تشبه ما تفعله واشنطن مع تايوان على حدودها الشرقية. كما أن الصين وروسيا كثّفتا من دعمهما لإيران في الآونة الأخيرة، تحسباً لاحتمال شنّ عدوان جديد من قبل الكيان الصهيوني بدعم أمريكي. في المقابل، يواصل بعض الأنظمة العربية الاصطفاف خلف واشنطن، أملاً في وعودٍ فارغة تحت شعار “سلام الشرق الأوسط”، الذي تحوّل في جوهره إلى غطاءٍ للتقارب مع الكيان الصهيوني، وسط أحاديث عن اجتماعات عربية – صهيونية سرية تهدف إلى بناء تحالف جديد برعاية أمريكية. ولعلّ هذا ما يُفسّر صمت بعض الأطراف الفلسطينية، بما في ذلك ممثل السلطة وحركة حماس، عن ذكر الجزائر، رغم مواقفها الثابتة المناصرة للقضية الفلسطينية.

الولايات المتحدة تُخطط منذ فترة لمواجهة طويلة مع الصين، غير أن بكين سبقتها إلى إعلان المواجهة المباشرة، سواء عسكرياً عبر فنزويلا الواقعة على مقربة من الحدود الأمريكية، أو اقتصادياً عبر حرب المعادن النادرة. فقد قررت الصين منع تصدير هذه المعادن الحيوية – التي تحتاجها الصناعات الأمريكية المتقدمة – إلا بتراخيص أمنية مسبقة، في خطوة تُعدّ ضربة استراتيجية للاقتصاد الأمريكي القائم على التكنولوجيا.

أما في أوكرانيا، فإن الملف يسير بعكس ما خطّط له البيت الأبيض. فترامب، الذي كان يعوّل على انتصار سريع يُضعف روسيا، وجد نفسه في مأزق عسير، وهو اليوم يُفكّر في تزويد زيلينسكي بصواريخ “توماهوك” بعيدة المدى لقصف موسكو، وهو ما سيجرّ واشنطن إلى مستنقع خطر، لأن موسكو حذّرت من أن أي قصف لأراضيها بهذه الصواريخ سيُعتبر عملاً مباشراً من الجيش الأمريكي، مما يفتح الباب أمام مواجهة شاملة قد تطال دول الغرب نفسها. تلك الخطوة، إن حدثت، ستكون الشرارة الأقرب لاندلاع الحرب العالمية الثالثة.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها أمريكا منتصرة ومهيمنة على العالم اقتصادياً وعسكرياً، لم تعرف واشنطن وضعاً بهذا الارتباك. اليوم، تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع قوى عظمى صاعدة كالصين وروسيا، ومع نظام اقتصادي عالمي جديد لم يعد يسمح لبلدٍ واحدٍ بالتحكم في مصير الآخرين. وإن دخلت الولايات المتحدة حرباً مفتوحة الآن، فلن تكون بمنأى عن القصف والدمار، بخلاف ما حدث في الحروب السابقة التي لم تطأ نيرانها أرضها.

اقتصادياً، لم تعد أمريكا قادرة على اعتلاء قمة الاقتصاد العالمي بمفردها، إذ أصبحت الصين تنافسها بقوة، وروسيا تفرض نفسها كمصدر طاقة مؤثر، بينما تنهك الحروب المتتالية الميزانية الأمريكية وتزيد من معدلات التضخم والدَّين العام. لذلك، لم تعد استراتيجية الاحتواء التي تبنّتها واشنطن خلال الحرب الباردة مجدية في عالمٍ متعدد الأقطاب.

لقد تغيّرت المعادلة تماماً. أمريكا التي كانت تُشعل الحروب من دون أن تمسّها أضرارها، باتت اليوم تدرك أن أي مواجهة كبرى ستجعلها أول من يدفع الثمن. الحروب التي كانت تدرّ عليها نفوذاً واقتصاداً أصبحت عبئاً سياسياً وأخلاقياً. لم تعد أدوات السيطرة القديمة تعمل، ولا لغة التهديد تُجدي. لم يعد أمام الولايات المتحدة إلا خيارٌ واحدٌ لتفادي الخراب العالمي الذي يلوح في الأفق: الجلوس على طاولة “يالطا” جديدة، تُعيد رسم التوازن الدولي على أسسٍ عادلةٍ، وتُقرّ بحقيقة أن العالم لم يعد يحتمل نظام القطب الواحد.

فإما أن تعترف واشنطن بالواقع الجديد وتقبل بالشراكة في نظام عالمي متعدد القوى، أو تُغامر بالتصعيد الذي سيُدخل البشرية في فوضى شاملة، ستكون هي أول ضحاياها. لقد تغيّر الزمن، وتبدّلت الموازين، ولم يعد بإمكان أمريكا أن تعيش في وهم التفوق الأبدي. الآن، إما “يالطا” جديدة… أو انهيار عالمي لا يرحم أحداً.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

قمة شرم الشيخ… سلام بلا دولة

بعد أن زار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الكيان الصهيوني ليقدّم له كل الضمانات، وألقى خطابً…