كأس العرب… اسم بلا مضمون في زمن أفول القومية
فيما تقترب البطولة التي أُطلق عليها اسم كأس العرب من محطتها الختامية، يبرز نقاش متجدد حول دلالة هذه التسمية ومدى انسجامها مع الواقع السياسي والفكري الذي تعيشه المنطقة اليوم. فقد بات واضحا، وفق هذا الطرح، أن تسمية “كأس العرب” لم تعد تعكس حقيقة ما يجمع الدول المشاركة، بعد أن تلاشت، عمليا، معظم مظاهر القومية العربية التي تأسست مع حركة القوميين العرب، ثم امتدت لاحقا مع المفكر ميشال عفلق، الذي حاول تجسيدها سياسيا فيما عُرف لاحقا بتجارب الحكم في سوريا والعراق، قبل أن تنكشف حدودها البنيوية وأسباب فشلها.
لقد تبين، مع مرور الزمن، أن الخلافات التي عصفت بتلك التجارب لم تكن سياسية فحسب، بل حملت في عمقها أبعادا طائفية وعقدية لم تستطع القومية العربية تجاوزها أو احتواؤها. فحزب البعث في العراق قام، في بنيته الأولى، على قاعدة سنية، بينما اتخذ حزب البعث في سوريا طابعا علويا شيعيا، وهو تناقض عقدي عميق قضى، في نهاية المطاف، على المشروع القومي العروبي من أساسه. وفي موازاة ذلك، شكلت مصر في عهد جمال عبد الناصر جناحا آخر للعروبة، في إطار توسيع الوطنية المصرية تحت شعار القومية العربية، دون أن تنجح هي الأخرى في بلورة مشروع وحدوي مستدام.
عرفت ثلاثينيات القرن الماضي، وما تلاها، نماذج متعددة للقومية العربية، من البعثية إلى المصرية والخليجية، وقد تباين تأثير هذه النماذج ودرجة حضورها في البلدان التي تأثرت بها. بعض هذه الدول آمن بإمكانية بناء قوة موحدة من خلال هذا المد القومي، وكانت حرب أكتوبر ذروة هذا التقاطع السياسي والعسكري. غير أن هذا الزخم لم يدم، وسرعان ما تراجع المشروع القومي أمام تناقضاته الداخلية وتبدل موازين القوى الإقليمية والدولية.
وتقوم ما يُسمى بالعروبة الخليجية، في هذا السياق، على بعد لغوي وديني بالأساس، دون إيمان حقيقي بالقومية العربية كما تبلورت في العراق وسوريا، أو كما نظرت لها حركة القوميين العرب ذات الجذور اليسارية والمتأثرة بالمد الشيوعي في الشرق الأوسط. فالعروبة الخليجية لا تحمل مشروعا سياسيا أو أيديولوجيا متكاملا، بل تكتفي بمرجعية لغوية ودينية، وهو ما يجعلها، في جوهرها، مختلفة جذريا عن القومية العربية التي ارتبطت تاريخيا ببرامج سياسية واضحة وأدوات نضالية محددة.
هذا التباين يظهر جليا في ما سُمي بـ”كأس العرب”، التي تُفهم، وفق هذا المنظور، على أنها تجمع لبلدان تتكلم العربية وتدين بالإسلام، سنية كانت أم شيعية، كما هو الحال بالنسبة للعراق، دون أي اعتبار للبعد السياسي الذي شكّل الركيزة الأساسية للقومية العربية الكلاسيكية. فالعروبة، كما تأسست في الفكر القومي، كانت مشروعا سياسيا بامتياز، له أهداف وحدوية ومواقف واضحة من قضايا التحرر والاستعمار والصهيونية، وهي عناصر لا نجد لها أثرا في عروبة الخليج المعاصرة.
وتعكس مواقف الدول العربية اليوم هذا الفراغ السياسي، حيث تتصرف دولة الإمارات العربية المتحدة بمقاربات تختلف عن السعودية، بينما تنتهج المملكة الأردنية سياسات مغايرة لدول أخرى، في حين يعتمد المغرب مقاربة مختلفة تماما عن باقي الدول. هذا التشتت يعكس، في العمق، غياب أي مرجعية قومية جامعة، وتحول “العروبة” إلى مجرد توصيف ثقافي أو لغوي خالٍ من أي مضمون توحيدي.
القومية العربية، كما نظّر لها اليسار العربي وحركة القوميين العرب وميشال عفلق ومؤسسوها الأوائل، زالت عمليا من المشهد، وأُفرغت كلمة “العروبة” من أي محتوى سياسي أو نضالي. ولم يبق في الساحة سوى شعارات عروبية خليجية بلا مضمون، لا تلتزم بمواقف سياسية موحدة، ولا تحمل مشروعا جماعيا، وهو ما جعل الالتزام بها مسألة شكلية لا أكثر.
انطلاقا من هذا الواقع، لا يمكن اعتبار “كأس العرب” عربية بالمعنى القومي الذي أسسه الأوائل، بل هي عربية بالمعنى الخليجي الضيق، الخالي من أي مضمون سياسي. وهنا تكمن الإشكالية الحقيقية، إذ إن تفريغ العروبة من محتواها السياسي والنضالي أدى إلى قتلها معنويا، وإبعادها عن جوهرها القائم على تجميع القوى في مواجهة العدو المشترك. فالعدو، في منظور العروبة الخليجية، لم يعد هو نفسه في بلدان عربية أخرى، بل أصبح محل خلاف وتناقض صارخ، وصل في بعض الحالات إلى اعتبار التطبيع خيارا سياديا، كما هو حال دولة الإمارات العربية المتحدة، التي ينظر إليها هذا الطرح بوصفها “حصان طروادة” داخل مجموعة تصف نفسها بالعربية شكلا، دون التزام قومي مضمونا.
وفي هذا السياق، يرى أصحاب هذا الرأي أن مراجعة الجزائر لمواقفها باتت أكثر من ضرورة، وأن الخروج من عروبة الخليج الخالية من أي مضمون سياسي أصبح واجبا وطنيا، مع الحفاظ، في الوقت ذاته، على علاقات المصلحة التي تقتضيها السياسة الواقعية، وفق ما تمليه المصلحة الوطنية الجزائرية. كما يعتبرون أن مصطلح “الأشقاء” فقد هو الآخر مضمونه، ولم يعد يعكس واقعا سياسيا أو قوميا يمكن الاستمرار في تداوله دون مراجعة.
وعليه، فإن “كأس اللا عرب”، وفق هذا الطرح النقدي، مطالبة بالبحث عن توصيف جديد أكثر دقة وصدقا، إذا أُريد إقناع الجزائريين بالمشاركة فيها مستقبلا. فالعروبة الخليجية، كما يُنظر إليها هنا، لم تكن يوما ذات محتوى قومي نضالي موحد، خاصة بعد أن تراجعت قضايا التحرر ومناهضة الصهيونية والاستعمار الجديد، لتحل محلها عروبة التطبيع، التي لا تمت بصلة إلى العروبة كما عرفها روادها الأوائل.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الإمارات والقانون الدولي.. احترام انتقائي وشرعية مزيفة
أثار تصريح إيراني حديث حول جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وجزيرة أبو موسى، والذي أكد بشكل قاطع…






