بين البندقية والمنبر.. من يصنع إرهابيي الجزائر؟
ينجح الجيش الوطني الشعبي، مرة أخرى، في القضاء على مجموعة إرهابية بشرق البلاد، وتحديدًا بمنطقة تبسة. لا شك أن هذا العمل البطولي يستحق كل التقدير لرجال الجيش وقيادته العليا ممثلة في العميد السعيد شنقريحة.
ومع كل عملية تطهير من هذا النوع، يتنفس المواطن الصعداء ويستشعر عودة الطمأنينة إلى القرى والمدن. غير أن السؤال الجوهري يظل مطروحًا بإلحاح، من أين يُصنَع هؤلاء الإرهابيون؟ ومن يقوم بصقل عقولهم حتى يستبيحوا دماء إخوانهم المسلمين؟ والأهم، هل توجد استراتيجية لتجفيف منابع تلك المفارخ التي تنتج الآلاف من المتطرفين، بينما لا يتجاوز عدد من يتم القضاء عليهم بيد الجيش بضعة أفراد في الجبال والبراري؟
حين أُقرّت المادة 144 مكرر في قانون العقوبات — وهي مادة اعتُبرت آنذاك اختراقًا خطيرًا لمبادئ التشريع الوطني — بدا واضحًا أنها صُممت لتكون مظلة لحماية خطاب التطرف. وقد ساهم وزير العدل السابق في تفعيلها بشكل جعلها أداة لتمكين بعض التيارات التي لا تخفي ولاءها للأفكار الإخوانية. وما يثير الاستغراب أن هذه المادة لم تواجه أي اعتراض يُذكر من المسؤولين المفترض أن يدافعوا عن المرجعية الدينية الوطنية، القائمة أساسًا على التيار الصوفي والمذهب المالكي، إلى جانب الحنفي والأباضي وبعض الأقليات كالإسماعيليين.
شخصيًا تابعت محاكمة مفكر وأستاذ جامعي لمجرد أنه كتب ملاحظات نقدية عن الإمام البخاري على صفحته الإلكترونية. المفارقة أن من رفع الدعوى ضده سلفي وهابي من سيدي بلعباس، وهو نفسه خالف العادات التي يدّعي اتباعها عندما جاء بسيارته بدلًا من ركوب الجمال! الأكثر غرابة أن المحكمة حكمت لصالحه وأدانت الأستاذ، وكأننا أمام مهزلة قضائية غير مسبوقة: قارئ يتعمد دخول صفحة شخصية ثم يقاضي صاحبها لأنه لم يُعجبه ما كتب! هذا في وقت يُعتبر فيه مَن يدخل المواقع الإباحية مسؤولًا عن نفسه لا عن أصحابها. المنطق انقلب رأسًا على عقب، وغاب القانون لصالح الجهل والتعصب.
الحديث عن الإمام البخاري أو نقده من حق أي مذهب ضمن المرجعية الوطنية، إذ أن غالبية هذه المذاهب سبقت ولادته بقرون. فالبخاري وُلد عام 195 هـ، بينما كان المالكية والحنفية قد اكتمل بناؤهما الفكري قبل ذلك بوقت طويل. أما الأباضية، ذات الجذور المعتزلية، فهي أقدم من الجميع. فلماذا يُعاقَب أستاذ جزائري صوفي المذهب على نقد كتاب جاء بعد تأسيس مذهبه؟
الأغرب أن القاضية التي حكمت ضد المفكر هي في نظر التيار السلفي ذاته “كافرة” لأنها امرأة تتولى القضاء، ومع ذلك حكمت لصالح من يكفرها! هذه المفارقة تكشف حجم التعقيد الذي تعيشه الجزائر، بلد كافح الإرهاب لسنوات وانتصر عليه عسكريًا، لكنه يجد نفسه أمام مفارخ فكرية وقانونية تسللت حتى إلى البرلمان لتسنّ قوانين تحمي منظّري التطرف وتُصعّد بعضهم إلى مناصب وزارية ومفاصل الدولة.
الجيش يواصل معركته بشجاعة، وقدّم تضحيات جسامًا كان آخرها استشهاد العريف الأول في تيبازة. لكن المعادلة تزداد عبثية: بضعة إرهابيين يُقضى عليهم في الميدان، بينما مصانع التطرف تواصل إنتاج الآلاف عبر خطب منابر وأفكار متطرفة في قاعات الدروس. وهنا يبرز خطر الإخوان والوهابية والسلفية التي تحاول السيطرة على الجزائر بعدما لفظتها دول الخليج إثر إصلاحات دينية أعادت الاعتبار لوسطية الإسلام، لا سيما في السعودية حيث اكتُشف أن تشدد بعض الدعاة دفع آلاف الشباب نحو الإلحاد.
الجزائر تواجه اليوم معضلة أشبه بانفصام، العسكري يقتل الإرهابي بدمه ولحمه، بينما المدني يشرعن فكر التطرف بخطبة أو قانون. وهي معادلة خطيرة تهدد مستقبل أي بلد مسلم. وما يزيد الطين بلة ظهور أصوات على مواقع التواصل من بعض الأئمة الذين تجاوزوا كل الخطوط: أحدهم ينصح أتباعه بجلب “جواري” من إفريقيا، وآخر يشيطن طفلة في الثانية عشرة لأنها وضعت مساحيق، وثالث يصف تلميذة ابتدائية رفضت الحجاب بأنها “سافرة”، ورابع يقترح أن يحل الزوج مكان زوجته في العمل لإجبارها على البقاء في البيت. هذه ليست سوى مفارخ فكرية تُنتج أجيالًا من الشباب الناقمين، كما فعل حزب “الفيس” الإرهابي سابقًا.
الأخطر أن بعض الأئمة يدافعون علنًا عن حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين من على منابر المساجد في الجزائر، متجاهلين ما كشفه كتّاب ومفكرون عرب من ارتباطاته المشبوهة. هذا يعني أن الفكر القطبي التكفيري يجد له حواضن حية في مجتمعنا، وهو ما يشكّل تهديدًا حقيقيًا للأمن الروحي والفكري.
تفكيك هذه المعادلة ليس بالأمر السهل، لكنه ضرورة لا مفر منها. فالعنف لا يُهزم عسكريًا فقط، بل أيضًا فكريًا وتشريعيًا. وإذا لم تُجفّف مفارخ الإرهاب وتُقطع منابع الفكر التكفيري، سيظل الجيش يقاتل في الميدان بينما تُصنَع آلاف النسخ الجديدة في الخفاء. الاجتهاد في هذا المجال قد يكون الطريق الأوحد لضمان نصر نهائي وحماية الجزائر من آلام ومآسٍ ودمار محتمل.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
المروك على حافة الانهيار الاقتصادي ويبحث منفذا عبر الجزائر
تكثّف دوائر المخزن في المروك خلال الأسابيع الأخيرة حملاتها الإعلامية الممولة عبر مقالات مد…







