بين واشنطن وبكين.. نهاية زمن الأحادية الدولية
العرض العسكري الصيني الأخير، الذي أُقيم في بكين بحضور عدد من القادة الآسيويين، لم يكن مجرد استعراض للقوة، بل رسالة سياسية واضحة. فقد أبرز المستوى المتقدم الذي بلغته الصين في مجالات التسليح البحري والجوي، إضافة إلى تطويرها للصواريخ العابرة للقارات. بالنسبة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بدا هذا العرض وكأنه موجّه مباشرة ضد بلاده، خصوصًا أنه تزامن مع زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى بكين بعد سنوات من الجفاء، حيث وقّع اتفاقيات اقتصادية بمليارات الدولارات.
الهند، التي يفوق عدد سكانها المليار ونصف المليار، اختارت أن تحمي مصالحها الوطنية عبر استمرارها في شراء النفط الروسي بأسعار معقولة، بدلًا من الانجرار خلف السياسات الغربية التي ضغطت للتخلي عنه. فبينما رضخت العواصم الأوروبية لهذا النهج، مفضّلة شراء مصادر طاقة أكثر كلفة، آثرت نيودلهي أن تتخذ مسارًا أكثر براغماتية. هذه الخطوة، المدعومة بالتقارب مع الصين، عكست رفضًا متناميًا للضغوط الأمريكية، خاصة بعد فرض واشنطن رسومًا جمركية مرتفعة على البضائع الهندية.
الأزمة لم تقتصر على الهند. كندا، الحليف التاريخي والجارة المباشرة للولايات المتحدة، وجدت نفسها بدورها في مواجهة سياسات حمائية أمريكية قاسية. وقد ردّت أوتاوا بالمثل، بل وشهدت العلاقات الثنائية فتورًا انعكس حتى على السياحة، إذ تراجع إقبال الكنديين على السفر إلى الولايات المتحدة. أما التوترات مع المكسيك والبرازيل، فتمثل بدورها فصلاً آخر من سلسلة خلافات واشنطن مع شركائها.
في أوروبا، أثار العرض العسكري الصيني نقاشات واسعة، وشغلت تحليلاته ساعات طويلة من البث الإعلامي. المفارقة أن الغرب يعتبر من حقه التحالف لمواجهة روسيا أو غيرها، لكنه ينظر بقلق شديد إلى أي تعاون بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية أو دول الجنوب، ويصنّفه فورًا كتكتل “ديكتاتوري” يهدد “العالم المتحضر”. هذه النظرة تكشف ازدواجية المعايير: ما يُعتبر مشروعًا للغرب يُعدّ تهديدًا حين يصدر عن الآخرين.
السياسات الغربية ما زالت، في جوهرها، تحمل سمات استعمارية تقوم على الهيمنة الاقتصادية والعسكرية. من أزمة أوكرانيا التي ساهمت مليارات الدولارات الغربية في إذكائها، إلى محاولات محاصرة روسيا والصين عبر العقوبات والاصطفافات، يبدو أن منطق القوة لا يزال هو الحاكم. المثال الأوضح هو تهديد واشنطن بمعاقبة أي دولة تشتري النفط الفنزويلي، بينما اختارت بكين المضي في استيراده دون تردد، وهو ما كشف حدود القدرة الأمريكية على فرض إرادتها.
هذا النهج لم يمر دون رد فعل غربي حاد. ففي تصريح لافت، اعتبرت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي أن لقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ مع نظيريه الروسي فلاديمير بوتين والكوري الشمالي كيم جونغ أون “اجتماعًا للديكتاتوريات”، لكنها لم تبد أي قلق من اجتماع أكثر من خمسين دولة في قاعدة رامشتاين بألمانيا للتخطيط لمواصلة الحرب في أوكرانيا. المفارقة هنا واضحة: يُسمح للغرب بتكتيل الحلفاء عسكريًا، بينما يُجرّم على الآخرين التنسيق للدفاع عن مصالحهم.
الحقيقة أن ما يقلق الغرب ليس مجرد العرض العسكري الصيني ولا لقاءاته الثنائية، بل بروز محور دولي جديد يضم قوى صاعدة من الجنوب العالمي. هذا المحور، الذي أخذ يتبلور في بكين، لا يسعى فقط إلى موازنة النفوذ الغربي، بل إلى فرض نفسه كفاعل أساسي في إدارة الصراعات وحل الخلافات الدولية. ومن هنا، فإن على الغرب أن يتعامل مع هذا الواقع الجديد بجدية، وأن يدرك أن لغة العقوبات والضغوط لم تعد كافية في عالم متعدد الأقطاب.
إن تعديل الكفة المائلة في النظام الدولي قد بدأ بالفعل… ومن بكين تحديدًا.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…